رجلا من جهينة أو مزينة أتى إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون ، فيه شيء قضي عليهم ، أو مضى عليهم في قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم ، واتّخذت عليهم الحجة؟ قال : بل شيء قضي عليهم ، قال : فلم يعملون إذا يا رسول الله؟! قال : من كان الله عزوجل خلقه لواحدة من المنزلتين ، فهيّأه لعملها ، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) [الشمس] (١).
وقال المحاملي : حدثنا أحمد بن المقدام : حدثنا المعتمر بن سليمان. قال : سمعت أبا سفيان يحدث عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، أنه قال : نزل «فمنهم شقي وسعيد» فقال عمر : يا نبي الله : علام نعمل ، على أمر قد فرغ منه ، أم لم يفرغ منه؟ قال : لا! على أمر قد فرغ منه ، قد جرت به الأقلام ولكن كل ميسر. أما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى» (٢).
فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ، ولا يوجب الاتكال عليه ، بل يوجب الجد والاجتهاد ، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال : ما كنت أشد اجتهادا مني الآن. وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقّة أفهامهم وصحة علومهم ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب ، فإن العبد ينال ما قدّر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكّن منه وهيّئ له ، فإذا أتى
__________________
(١) أحمد (٤ / ٤٣٨) ، وهو في مسلم (٢٦٥٠).
(٢) صحيح. رواه الترمذي (٣١١١) عن عمر بن الخطاب. ولم نره في أمالي المحاملي ، والله أعلم.