بالسبب ، أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب ، وكلما زاد اجتهادا في تحصيل السبب ، كان حصول المقدور أدنى إليه ؛ وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه ، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه ، وإذا قدر له أن يرزق الولد ، لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسري والوطء ، وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغلّ كذا وكذا ، لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع ، وإذا قدر الشبع والري ، فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب واللبس ، وهذا شأن أمور المعاش والمعاد.
فمن عطل العمل اتكالا على القدر السابق ، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالا على ما قدر له.
وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية ، بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات ، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم ، فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة ، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد ، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة ، فهو مهيأ له ميسر له.
فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها ، كان أشد اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه ، وقد فقه هذا كل الفقه من قال : ما كنت أشد اجتهادا مني الآن.
فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم ، لا يشوبه نكد ولا تعب ، كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه ، ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان : لأنا بأوّل هذا الأمر أشدّ فرحا مني