بآخره ، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة ، وهيأه ويسره للوصول إليها ، كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها ، فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه ، وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدّرها وهيّأ له أسبابها ، لتوصله إليها ، فالأمر كله من فضله وجوده السابق ، فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها. فالمؤمن أشد فرحا بذلك من كون أمره مجعولا إليه.
كما قال بعض السلف : والله ما أحب أن يجعل أمري إليّ ، إنه إذا كان بيد الله خيرا من أن يكون بيدي ، فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ، ومقتض لها ، لا أنه مناف لها وصادّ عنها ، وهذا موضع مزلة قدم ، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم ، ومن زلت قدمه عنه ، هوى إلى قرار الجحيم.
فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أرشد الأمة في القدر إلى أمرين ، هما سببا السعادة : الإيمان بالأقدار ، فإنه نظام التوحيد ، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره ، وذلك نظام الشرع ، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر ، فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد ، أو القدح بإثباته في أصل الشرع ، ولم تتسع عقولهم التي لم يلق الله عليها من نوره للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه ، وهو القدر والشرع والخلق والأمر ؛ وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة ، وقد تقدم قوله : احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإنّ العاجز من لم يتسع للأمرين ، وبالله التوفيق.