وتشكيكات المشككين وتكلّفات المتنطّعين ، واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت ، وجمعت وفرّقت ، وأوضحت وبيّنت ، وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن ، ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم وطريقه القويم ، فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب العهد ومباشرة التّلقّي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ، ومنبع كل خير ، وأساس كل هدى ، ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان فاقتفوا طريقهم وركبوا منهاجهم واهتدوا بهداهم ودعوا إلى ما دعوا إليه ومضوا على ما كانوا عليه ، ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر وأنّ الأمر أنف ، فمن شاء هدى نفسه ومن شاء أضلّها ، ومن شاء بخسها حظها وأهملها ، ومن شاء وفّقها للخير وكملها كلّ ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد ، فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء وفي مشيئته ما لا يكون ، ثم جاء خلف هذا السلف ، فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر ، وسمّوه عدلا وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا ، فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإرادتهم من قدرته ومشيئته وخلقه ، والتوحيد عند متأخّريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله ، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام ، ما تكلّم ولا يتكلم ، ولا أمر ولا يأمر ، ولا قال ولا يقول ، إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقه منه في الهواء أو في محل مخلوق ، ولا استوى على عرشه فوق سماواته ، ولا ترفع إليه الأيدي ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده. وليس فوق العرش إله يعبد ولا ربّ يصلّى له ويسجد ، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف. فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.