وهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ، ويحصر اللسان عن التعبير عنه. وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله ، وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم ، وأمّته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم ، من العلم بالله وبأسمائه وصفاته ، وهو سبحانه قد أحاط علما بذلك كله ، قبل السموات والأرض ، وقدّره وكتبه عنده ، ثم يأمر ملائكته بكتابة ذلك من الكتاب الأول ، قبل خلق العبد ، فيطابق حاله وشأنه لما كتب في الكتاب ولما كتبته الملائكة ، لا يزيد شيئا ولا ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته عنده ، كان في علمه قبل أن يكتبه ، ثم كتبه كما في علمه ، ثم وجد كما كتبه قال تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠)) [الحج].
والله سبحانه قد علم ، قبل أن يوجد عباده ، أحوالهم وما هم عاملون وما هم إليه صائرون ، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ، ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه ، وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه ، فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب ، بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق ، ولم يكونوا يستحقون ذلك ، وهي في علمه قبل أن يعملوها ، فأرسل رسله ، وأنزل كتبه ، وشرع شرائعه إعذارا إليهم وإقامة للحجة عليهم لئلا يقولوا : كيف تعاقبنا على علمك فينا ، وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟! فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم ، حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار ، وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ، ابتلاهم بما زيّن لهم من الدنيا وبما ركّب فيهم من الشهوات ، فذلك ابتلاء بشرعه وأمره ، وهذا ابتلاء بقضائه وقدره ، وقال تعالى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)) [الكهف] وقال (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ (٧)) [هود].
فأخبر في هذه الآية أنه خلق السموات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه ،