وهذا من الحق الذي خلق به خلقه ، وأخبر في الآية التي قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضا ، فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه ، وقدّر عليهم الموت الذي ينالون به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب ، وإن خبّر في الآية الأولى أنه زين لهم ما على الأرض ، ليبتليهم به ، أيهم يؤثر ما عنده عليه ، وابتلا بعضهم ببعض ، وابتلاهم بالنعم والمصائب ، فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودا عيانا ، بعد أن كان غيبا في علمه ، فابتلى أبوي الإنس والجن كلا منهما بالآخر ، فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه ، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه ، فلهذا قال للملائكة (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)) [البقرة] واستمر هذا الابتلاء في الذرية إلى يوم القيامة فابتلى الأنبياء بأممهم ، وابتلى أممهم بهم ، وقال لعبده ورسوله وخليله : إني مبتليك ومبتل بك ، وقال (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)) [الأنبياء] وقال (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً (٢٠)) [الفرقان].
وفي الحديث الصحيح أن ثلاثة أراد الله أن يبتليهم : أبرص وأقرع وأعمى ، فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في علمه قبل أن يخلقهم ، فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه ، وأنه كان أعمى فقيرا فأعطاه الله البصر والغنى ، وبذل للسائل ما طلبه شكرا لله. وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كان عليه قبل ذلك ، من سوء الحال والفقر ، وقال في الغنى : إنما أوتيته كابرا عن كابرا (١).
وهذا حال أكثر الناس ، لا يعترف بما كان عليه أولا ، من نقص أو جهل وفقر وذنوب ، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضدّ ما كان عليه ، وأنعم بذلك عليه ، ولهذا ينبه سبحانه الإنسان على مبدأ خلقه الضعيف ، من الماء
__________________
(١) رواه البخاري (٣٤٦٤) ، ومسلم (٢٩٦٤) عن أبي هريرة.