بيت عبادتهم الأعظم ، ومحلّ تجسّد النّاسوت فيما زعموا باللّاهوت ـ تعالى الله وتقدّس عمّا يقولون علوّا كبيرا ـ وبه قمامة الّتي تدعى القيامة محلّ ضلالتهم وقبلة جهالتهم ، زعموا أنّ المسيح دفن بعد الصّلب بها ثلاثة أيّام ، ثمّ قام من القبر ، وصعد إلى السّماء ، فبالغوا في تحصينه بكلّ طريق. فنازله السّلطان ، وما وجد عليه موضعا أقرب من جهة الشّمال فنزل عليه ، واشتدّ الحرب ، وبقيت الفرسان تخرج من المدينة وتحمل وتقاتل أشدّ القتال وأقواه ، ثمّ إنّ المسلمين حملوا عليهم يوما حتّى أدخلوهم القدس ، ولصقوا بالخندق ، ثمّ جدوا في النّقوب ، وتتابع الرمي بالمجانيق من الفريقين ، ووقع الجدّ ، واجتمعت الفرنج ، واتّفقوا على طلب الأمان ، فامتنع السّلطان ـ أيّده الله ـ من إجابتهم فقال : لا أفعل فيه إلّا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه من نحو تسعين سنة. فرجعت رسلهم خائبين. فخرج صاحب الرملة ياليان بنفسه فطلب الأمان فلم يعط ، فاستعطف السّلطان فامتنع ، فلمّا أيس قال : نحن خلق كثير وإنّما يفترّون عن القتال رجاء الأمان ورغبة في الحياة ، وإذا رأينا أنّ الموت لا بدّ منه لنقتلنّ أبناءنا ونساءنا ، وتحرّق أموالنا ، ولا ندع لكم شيئا ، فإذا فرغنا أخربنا الصّخرة والأقصى ، وقتلنا الأسرى ، وهم خمسة آلاف مسلم ، وقتلنا الدّوابّ ، ثمّ خرجنا إليكم وقاتلنا قتال الموت ، فلا يقتل منّا رجل حتّى يقتل رجلا ونموت أعزّاء.
فاستشار حينئذ السّلطان أمراءه فقالوا : المصلحة الأمان. وقالوا : نحسب أنهم أسارى بأيدينا فنبيعهم نفوسهم. فأمّنهم بشرط أن يزن كلّ رجل عشرة دنانير ، وكلّ امرأة خمسة دنانير ، والطّفل دينارين.
ثمّ رفعت أعلام الإسلام على السّور ، ورتّب السّلطان أمناءه على أبواب القدس ليأخذوا المال ممّن يخرج ، وكان بها ستّون ألفا سوى النّساء والولدان. ووزن ياليان من عنده عن ثمانية عشر ألف رجل. ثمّ بعد ذلك أسر منها عشرة آلاف نفس فقراء لم يقدروا على شراء أنفسهم.
ثمّ إنّ جماعة من الأمراء ادّعوا أنّ لهم في القدس رعيّة ، فكان يطلقهم.