لأنّ القوم وإن كانوا مطبوعين على الفصاحة ، فقد كانوا يتفاضلون فيها تفاضلا شديدا ؛ فليس ينكر أن ينتهي بهم التفاضل إلى أن يكون الفاضل منهم هو الّذي يعلم مزيّة فصاحة القرآن وفضيلته ، والمفضول لا يعلم ذلك وإن كان مطبوعا. وكما افترقوا في المنزلة والطبقة مع اتّفاقهم في الطّبع ، وكذلك يفترقون في هذه المعرفة وإن اتّفقوا في الطّبع.
فإن قال : فلعلّ أميّة بن خلف لم يرد بقوله : «لو نشاء لقلنا مثل هذا» المماثلة في الفصاحة ، وإنّما أراد مثله في بعض الوجوه الّتي يتمكّن فيها من مساواته ، وهذا يسقط الاحتجاج بقوله.
قيل له : كيف يريد ذلك وهو يعلم ضرورة ـ وكلّ من سمع التّحدّي أو اتّصل به خبره ـ الفرض فيه ، وأنّهم دعوا إلى الإتيان بمثل القرآن في الفصاحة ، أو في النّظم والفصاحة معا ، حسب ما نصرناه؟
وهذا القول إنّما وقع منه عند التقريع بالقرآن والمطالبة بفعل مثله ، فليس يكون إلّا مطابقا لمعنى التحدّي.
ولئن جاز أن يورد ذلك على سبيل التّمويه والتلبيس ـ فيطلق هذا اللّفظ الّذي ظاهره يدلّ على ادّعاء التمكّن من الإتيان بمثله في الوجه الذي وقع التّحدّي به ـ ولا يريد هذا بل يضمر شيئا آخر ، ما اقتضاه التحدّي أيضا أن يدّعي هو أو غيره من العرب ـ في بعض الكلام الفصيح ـ أنّه معارضة للقرآن ؛ وإن لم يكن مماثلا في الحقيقة ولا مقاربا. ويضمر أنّ ما ادّعى ذلك فيه مثل للقرآن من بعض الوجوه الّتي يساوي القرآن فيها غيره من الكلام ، ممّا لم يتوجّه التحدّي والتقريع به.
وقد فعل قريبا من هذا النّضر بن الحارث ؛ فإنّه ادّعى معارضة القرآن بأخبار رستم واسفنديار ، وأوهم أنّ التحدّي وقع بالقصص والإخبار عن الأمم السّالفة والقرون الغابرة ، ولم يمنعه علمه ـ بأنّ الّذي أتى به ليس بمعارضة عند أحد من