قيل له : إذا سلّم أنّ القوم كانوا قادرين على الفصاحة والنّظم وعالمين بها ، فليس يقعد بهم عن المعارضة قاعد ؛ لأنّ المعارضة لا تحتاج إلى أكثر من التمكّن من الفصاحة وطريقة النّظم. وإنّما يتعذّر معارضة الكلام الفصيح المنظوم ضربا من النّظم على من لا يتمكّن من مثل فصاحته ، أو من لا يتمكّن من احتذاء طريقة نظمه. ومن تمكّن منها فليس يتعذّر عليه.
فأمّا تجويد بعض الشّعراء في بعض الأوزان ، وعلوّ كلامهم في بعض الأعاريض ، فما لا ينكر ، إلّا أنّه ليس يكون بين كلامهم فيما جوّدوا فيه وبينه فيما قصّروا فيه ، تفاوت عظيم وتباعد شديد. والتّفاوت بين الكلامين في الفصاحة حاصل ، وإن تقدّم أحدهما على الآخر فيها. وكذلك القول فيمن جمع بين الشّعر والخطابة ، وجوّد في أحدهما.
ولو لا أنّ الأمر على هذا لم ننكر أن يلحق شعر أحد الشّعراء ـ في بعض الأعاريض ـ بالطبقة العليا ، ويكون شعره في باقي الأوزان في الطبقة السّفلى. وهذا ممّا لا يشتبه بطلانه ، فلو كانت حال العرب حال هؤلاء لوجب أن يكون بين فصاحتهم في أشعارهم وكلامهم وبينها ، في نظم القرآن ، فصل قريب قد جرت بمثله العادة ، فكانت المعارضة حينئذ تقع لا محالة ؛ لأنّهم دعوا إلى مقاربته لا مماثلته.
وإنّما يكون هذا السؤال نافعا للخصم ، لو كان التفاضل الّذي ذكره بين شعر الشّعراء ينتهي إلى أن يكون الفاضل فصيحا ، والمفضول لا حظّ له في الفصاحة ؛ فيحمل تعذّر معارضة القرآن على ذلك.
فأمّا والأمر على ما بيّناه فأكثر ما فيه أن يكون بين كلام العرب ، إذا لم يحتذوا نظم القرآن وبينه إذا احتذوه ، مثل ما بين كلام أحد الشّعراء في بعض الأوزان الّتي يجوّد فيها ، وكلامه في غيره من الأوزان ؛ فكما أنّ من ساوى هذا الشّاعر في رتبة