العقلاء الكاملين تشهد بأن الموجودات الروحانية موجودة. وأنها مع كونها موجودة فهي أعلى، وأكمل وأشرف من الموجودات الجسمانية.
والذي يدل على ما ذكرناه وجوه اعتبارية.
فالأول (١) : إن كل إنسان كان استغراقه في حب الجسمانيات أكثر ، وكان شغفه بوجدانها والوصول إليها أشد ، كان عند العقلاء من الناس أكثر حقارة وأكمل خساسة ، وكل من كان إعراضه عن الجسمانيات أكثر ، وكان التفاته إليها أقل ، وكان شغفه بالفكر في طلب المعارف أتم ، كان عند كل الخلق أعلى حالا ، وأكمل درجة. والذي يقرر هذا : أنهم إذا اعتقدوا في إنسان أنه جعل أيامه وذكره ، وفكره وقفا على تحصيل المطعوم والملبوس والمنكوح ، وصار بالكلية معرضا عن الأحوال الروحانية ، فإن كل عاقل يقضي عليه بأنه من البهائم ، وأنه خارج عن صفة (٢) الإنسانية ، وينظرون إليه بعين الحقارة والإهانة ، ولا يقيمون له في نظرهم البتة (٣) وزنا.
وأما إذا اعتقدوا فيه أنه معرض عن طلب هذه الجسمانيات ، وقليل الميل إليها ، وعديم الالتفات إليها ، فإنهم يعظمونه ويعترفون له بوجوب التعظيم والاعتراف بالتقديم.
واعلم : أن هذا الحكم غير مختص بالعقلاء والأكياس من الناس بل جميع طوائف أهل العالم مطبقون متفقون على هذا الحكم ، وهذا يدل على أن جميع الخلق مطبقون على تحقير الجسمانيات ، وعلى تعظيم الروحانيات. بل نقول : إن الأجلاف من الترك والهند والزنج ، مقرون بهذه الأحوال ، لأنهم يحترمون شيوخهم ويعظمونهم ، وما ذاك إلا أنهم اعتقدوا فيهم أنهم بسبب طول العمر عرفوا ما لم يعرفوه ، ووقفوا على ما لم يقفوا عليه ، فلأجل هذا الخيال يحترمونهم حتى إذا أحسوا من بعض الشيوخ بأفعال لا تليق بالمشايخ ، فإنهم يبالغون في
__________________
(١) هذا هو النوع الأول. والنوع الثاني يأتي بعد قليل ، وهو عن الجسمانيات.
(٢) مرتبة (س).
(٣) من (ز).