بمتحيز ولا حال في المتحيز ليس من البديهيات البتة.
الحجة الثالثة : إنا نعلم بالضرورة : أن أشخاص الناس مشتركة في المعنى المفهوم من قولنا : إنسان. ومتباينة بتعيناتها وخصوصياتها (١) وما به المشاركة غير ما به المخالفة. وهذا يدل على أن الإنسان من حيث هو إنسان : مفهوم مجرد عن الشكل المعين ، والحيز المعين. فثبت أن الإنسان معقول مفهوم مجرد. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المخلوقات (٢) منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال؟ فإن قيل : هذا الكلام مغالطة ، وذلك لأن
__________________
(١) قال ابن سينا في «الإشارات والتنبيهات» في النمط الرابع من الإلهيات :
«اعلم : أنه قد يغلب على أوهام الناس : أن الموجود هو المحسوس ، وأن ما لا يناله بجوهره ، ففرض وجوده محال. وأن ما لا يتخصص بمكان أو وضع بذاته كالجسم ، أو لسبب ما هو فيه كأحوال الجسم. فلاحظ له من الوجود. وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس ، فتعلم منه بطلان قول هؤلاء. لأنك ـ ومن يستحق أن يخاطب ـ تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد. لا على سبيل الاشتراك الصرف ، بل بحسب معنى واحد. مثل اسم الانسان. فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو ، بمعنى واحد : موجود. وذلك المعنى الموجود ، لا يخلو. إما أن يكون بحيث يناله الحس ، أو لا يكون. فإن كان بعيدا من أن يناله الحس ، فقد أخرج التفتش من المحسوسات : ما ليس بمحسوس. وهذا أعجب. وإن كان محسوسا فله لا محالة وضع وأين ومقدار معين وكيف معين ، لا يتأتى أن يحس ، بل ولا أن يتخيل إلا كذلك. فإن كل محسوس وكل متخيل ، فإنه يتخصص لا محالة لشيء من هذه الأحوال. وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال ، فلم يكن مقولا على كثيرين مختلفين في تلك الحال.
فإذن الإنسان من حيث هو واحد الحقيقة بل من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة ـ غير محسوس ، بل معقول صرف. وكذلك الحال في كل كلي. ولعل قائلا منهم يقول : إن الإنسان مثلا إنما هو إنسان من حيث له أعضاء ، من يد وعين وحاجب وغير ذلك. ومن حيث هو كذلك ، فهو محسوس. فننبه ونقول له : إن الحال في كل عضو كلي ، مما ذكرته أو تركته ، كالحال في الإنسان نفسه.
«تنبيه» : إنه لو كان كل موجود بحيث يدخل في الوهم والحس. لكان الحس والوهم يدخلان في الحس والوهم ، ولكان العقل الذي هو الحكم الحق يدخل في الوهم. ومن أبعد هذه الأصول ، فليس شيء من العشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة والجبن ، مما يدخل في الحس والوهم ، وهي من علائق الأمور المحسوسة. فما ظنك بموجودات ، إن كانت خارجة الذوات عن درجات المحسوسات وعلائقها» أه.
(٢) فثبت : أن الإنسان من حيث هو إنسان ، مفهوم مجرد عن. فقد أخرج التفتيش عن المحسوس ما هو معقول مجرد. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات ... الخ (س) والعبارة مصححة.