موجود مجرد عن الوضع والحيز ونحن لا نطلب في هذا المقام إلا هذا القدر. فأما الجزم. بأن هذا الشيء موجود أو ليس بموجود فذاك موقوف على الدليل المنفصل. ولقائل أن يقول : إن العقل إذا فهم معنى الإنسانية فإنه يحكم بأن هذا المعنى إذا وجد في الأعيان فإنه لا ينفك عن الوضع والحيز. والمقصود من هذا البحث : أن العقل هل يجوز إثبات موجود في الأعيان بشرط كونه مجردا عن الوضع والحيز؟ وهذا الكلام لا يفيد هذا المطلوب ، فيثبت : أن هذا الدليل ليس بقوى في إفادة هذا المطلوب. والشيخ الرئيس أبو علي ذكره في الإشارات وعوّل عليه في هذا الباب. إلا أن البحث فيه ما ذكرناه.
الحجة الرابعة : إن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية في استخراج مسألة معضلة. فقد يقول في نفسه : إني حكمت بكذا أو اعترفت بكذا فهو حال ما يقول في نفسه إني عقلت كذا وحكمت بكذا. لا بد وأن يكون عارفا بنفسه إذ لو لم يعرف نفسه لامتنع منه أن يحكم على نفسه بأنه حكم بكذا ، أو عرف كذا. ثم إنا نعلم بالضرورة : أنه في تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الشكل [والوضع والحيز (١)] والمقدار ، فضلا عن أن يعلم كون ذاته في حيز وموصوفه بشكل ومقدار. فيثبت : أن العلم بالشيء الموجود في الأعيان قد يحصل عند عدم العلم بحيزه أو بشكله أو مقداره. وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد عن هذه الأشياء يصح أن يكون معقولا.
الحجة الخامسة : أن نقول : إن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة. أما الكرامية. فإنا إذا قلنا لهم : لو كان الله تعالى مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا مؤلفا من الأبعاض والأجزاء [وأنتم لا تقولون (٢)] به وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ. وأنتم لا تقولون به. وعند هذا الكلام قالت الكرامية : إنه واحد منزه عن التركيب والتبعيض. ومع
__________________
(١) من (س)
(٢) من (و)