العبد فاعلا وموحدا ، ومتى كان الفرع معلوما بالضرورة ، كان الأصل أيضا معلوما بالضرورة، فوجب أن يكون العلم بكون العبد موجدا علما ضروريا.
وهذه مقدمات لا بد من تقريرها.
أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : إن العلم الضروري حاصل بحسن المدح والذم. فتقريره: أن كل من أحسن إلى إنسان ، وأوصل إليه نوعا من أنواع الخير ، فإن صريح عقله يحكم بحسن الشكر والمدح والثناء له ، وكل من آذاه وأوصل إليه نوعا من أنواع الضرر ، فإن صريح عقله يحمله على أن يقول : لم فعلت هذا؟ وبئس ما فعلت. والعلم بحسن هذا المدح والذم من أجلى العلوم الضرورية ، والمنازع فيه مكابر في أجلى العلوم البديهية.
وأما المقدمة الثانية : وهي في بيان أن العلم بحسن المدح والذم فرع على العلم بكونه فاعلا. فالدليل عليه : أن من رمى وجه إنسان بحجر حتى شجّه ، فإنه يجد من قبله ذمّ ذلك الرامي ، ولا يجد البتة ذم ذلك الحجر ولو قيل له : لم فرقت بينهما في هذا الحكم؟ فكل عاقل يفرق بينهما بقوله : إن الرامي فعل هذا الفعل باختياره ، فأستحق المدح والذم. وأما الحجر فلا قدرة له على الفعل البتة. فيثبت بما ذكرنا : أن صريح العقل حاكم بأن حسن المدح والذم فرع على العلم بكون الفاعل فاعلا.
وأما المقدمة الثالثة : وهي في بيان أن العلم بالفرع لما كان ضروريا ، وجب أيضا أن يكون العلم بالأصل ضروريا. فالدليل عليه : أن الأصل إذا لم يكن معلوما بالضرورة أمكن وقوع الشك فيه. وعند وقوع الشك في الأصل يلزم وقوع الشك في الفرع ، فيثبت : أن كون
الأصل نظريا ، يقتضي جواز وقوع الشك في الفرع ، ولما دللنا على أن وقوع الشك في هذا الفرع محال ، أعني العلم باستحقاق المدح والذم ، وجب أن يكون العلم بذلك الأصل ، أعني العلم بكون العبد موجدا غير قابل للشك. ومتى كان الأمر كذلك ، كان ذلك معلوما بالضرورة. فيثبت بما ذكرنا : أن التقسيم الذي ذكرتم لو صح ، لزم القدح في كون العبد موجدا لأفعال نفسه ، وثبت أن هذا باطل ، فوجب أن يكون ذلك التقسيم باطلا.