الأول : إنا لا نعقل ذاتا يكون عالما بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة. فإنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا أنها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين ، امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ، ثم إنا مع ذلك نعتقد بأنه تعالى عالم بجميع المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل في ذلك العلم اشتباه والتباس ، فكان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال.
الثاني : إن كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة أو أداة. وأن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلال واللغوب والتعب. ثم إنا نعتقد أنه تعالى يدبر من العرش إلى تحت الثري مع أنه منزه المشقة والتعب.
والثالث : إنا نعتقد أنه تعالى يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثري ، ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السماوات العلى وتحت الأرض السفلى. ومعلوم أن الوهم والخيال لا يتصوران هذه الأحوال. فيثبت بما ذكرنا : أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته. ومع ذلك فإنا نثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته على مخالفة الوهم والخيال. ومن المعلوم بالبديهة : أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة الأفعال والصفات. فلما عزلنا الوهم والخيال في المقام الأقرب الأظهر ، فلأن نعزلهما في المقام الأغمض الأصعب كان أولى.
الحجة السابعة : إن العقول والأفهام اضطربت في معرفة جوهر النفس الإنسانية ، مع أنا بينا في أول هذا الكتاب : أنها أظهر المعلومات وأقربها إلى العقل والعلم والفهم. ولما عجزت النفس عن معرفة نفسها فلأن تعجز عن معرفة خالق الكل ـ مع أنه لا نزاع في كونه مخالفا لجميع المخلوقات (١) بالحقيقة والماهية ـ كان أولى. بل نقول : الإنسان حال ما يكون يقظان فإنه لا يمكنه الوقوف على شيء من أحوال عالم الغيب. فإذا نام وزال عقله واستولت الغفلة على جسده قدر على الاتصال بعالم الغيب والاستفادة من تلك الأسرار. وذلك
__________________
(١) المحدثات (و).