الحجة الثالثة : إن الفلاسفة بينوا أن العلم بماهية العلة ، يوجب العلم بالمعلولات ولا شك أن الممكنات منتهية في سلسلة الحاجات ، ودرجات الافتقارات إلى الحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود لذاته. فلو كانت تلك الحقيقة المخصوصة ، معقولة لأحد من البشر ، لكان ذلك الإنسان عالما بالعلة التامة الحقيقية لجميع الممكنات ، والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول ، فكان يجب أن يكون ذلك الإنسان عالما بجميع أقسام الممكنات وأجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها على الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا ، لكن الأمر ليس كذلك. وهو معلوم بالضرورة. فوجب القطع بأنا لا نعرف ماهية الشيء الذي هو علة لجميع الممكنات. ولا شك أن ذاته المخصوصة هي المبدأ لجميع الممكنات. وهذا يفيد الجزم بأنا لا نعرف تلك الحقيقة المخصوصة من حيث هي هي.
الحجة الرابعة : إن الفلاسفة أثبتوا : أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية في الماهية للمعلوم في العالم. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول : لو عرفنا تلك الحقيقة المخصوصة، لوجب أن تكون تلك الصورة العقلية ، مساوية لذات الله تعالى في تمام الماهية ، وحينئذ تكون تلك الحقيقة المخصوصة نوعا حصل تحته أشخاص ، لكنه ثبت بالبراهين أن ذلك محال ، فوجب القطع بأنه يمتنع حصول العلم بتلك الذات المخصوصة. واعلم أنه لو ثبت أن العلم لا يحصل إلّا عند حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، لكان هذا برهانا يقينيا في أن معرفة تلك الذات المخصوصة ممتنعة في حق كل المخلوقات.
الحجة الخامسة : ثبت في الحكمة : أن الطبيعة الكلية إذا قيدت بقيد كلي ، كانت الماهية المتقيدة بذلك القيد الكلي ، تكون كلية أيضا مثاله : إن قولنا : الإنسان : طبيعة كلية. وقولنا : العالم : طبيعة أيضا كلية. فإذا قيدنا الإنسان بالعالم ، كان الحاصل هو الإنسان الكلي ، وهو أيضا طبيعة كلية. فإذا قيدنا الإنسان العالم بقيد كونه زاهدا كان الحاصل هو الإنسان الكلي ، وهو أيضا طبيعة كلية. فإذا قيدنا الإنسان العالم بقيد كونه زاهدا كان الحاصل هو الإنسان