وأما المراتب الثلاثة المطلوبة. فنقول : لما ثبت أن وجود الضرر أشد نفرة من فوات المنفعة وجب أن يكون دفع الضرر أشد مطلوبية من حصول النفع. ولذلك فإن العقلاء قالوا : دفع الضرر عن النفس واجب. أما تحصيل النفع (١) للنفس فغير واجب. وأيضا : دفع الضرر أهم من دفع دافع المنفعة ، لأن دفع دافع المنفعة وسيلة إلى حصول المنفعة. ولما كان دفع الضرر أهم من جلب النفع ، فلأن يكون أهم مما يكون وسيلة إلى جلب النفع ، كان أولى.
البحث الثاني : إنا قد ذكرنا : أن المنفعة المطلوبة بالذات. إما اللذة (٢) أو السرور وأن المضرة المكروهة بالذات. إما الألم أو الغم فيجب البحث عن أن اللذة أقوى أو السرور؟ وعن أن الألم أقوى أو الغم؟ فنقول : هذا يختلف باختلاف النفوس. فمن الناس من تكون اللذة الجسمانية (٣) عنده أثر ، ومنهم من يكون السرور عنده أثر. والحكم الجزم التام في هذا الباب كالمعتذر.
البحث الثالث : إذا وقع التعارض بين ما يكون مطلوبا بالذات أو مكروها بالذات. وبين ما يكون مطلوبا بالتبع ، أو مكروها بالتبع ، فلا شك أن ما بالذات أقوى مما بالتبع إلا إذا قلنا : إن ما بالذات يكون قليلا ضعيفا ، وإن ما بالتبع يكون كثيرا قويا. فههنا ربما صار ما بالتبع راجحا على ما بالذات ، بسبب الكثرة والقوة. والله أعلم (٤).
القسم الثاني : إنا قد بينا أن الداعي إلى الفعل ليس هو كون الفعل مصلحة في نفسه، والصارف عن الفعل ليس هو كون الفعل مفسدة في نفسه ، وإنما الداعي إلى الفعل علمه أو اعتقاده أو ظنه في كون ذلك الفعل في نفسه (٥) مصلحة ، والصارف عن الفعل أحد هذه الأمور الثلاثة في كون ذلك الفعل مفسدة.
__________________
(١) النفع (س).
(٢) وإما السرور (س).
(٣) الإنسانية (ت).
(٤) من (م).
(٥) في نفسه (س).