وإن كان كثيرا إلا أن السليم أكثر ، فيثبت بما ذكرنا أن جميع مخلوقات الله تعالى واقعة على وجه الحكمة والصواب. وعند هذا قالوا : الخير مراد مرضي به ، والشر مراد مكروه (أما إن الخير مراد مرضي به ، فلأن المقصود من الخلق إنما هو تحصيل الخير ، وأما أن الشر مراد مكروه) (١) فإنه نظرا إلى ذاته من حيث إنه مكروه ، إلا أنه لكونه من لوازم ذلك الخير المطلوب بالذات ، صار مرادا فهو مكروه بالذات ، مراد بالغرض والتبع ، ونظم حكيم الشعراء هذا المعنى فقال :
الشيب كره. وكره أن نفارق |
|
أعجب بشيء على البغضاء محبوب |
والمعنى أن الشيب يوجب نقصان القوة والحياة ، فهو مكروه بالذات. إلا أنه لما امتنعت حصول الحياة إلا مع حصوله ، وكانت الحياة محبوبة ، لزم كون الشيب محبوبا. وهذا يقتضي أن يكون الشيب محبوبا ومبغوضا ، إلا أنه محبوب بالغرض ، مبغوض بالذات (٢). فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الباب.
واعلم. أن الكلام في هذا المقام من وجهين (٣) :
الوجه الأول : إن قول القائل : إن هذا المؤثر لم يفعل الخير؟ ولم يفعل الشر؟ إنما يتوجه إذا كان ذلك المؤثر فاعلا مختارا ، وحينئذ يقال له : لم فعلت هذا؟ ولم تركت ذلك؟ أما إذا كان موجبا بالذات ، فهذا السؤال ساقط ، وأقصى ما في الباب أن يقال : إنه وإن كان موجبا بالذات إلا أنه عالم بما يصدر عنه إلا أنا نقول علمه بما يصدر عنه ، لا يكفي في حسن هذا السؤال. إذا لم يكن مختارا في ذلك التأثير ، ألا ترى أن العاقل العالم إذا سقط من السطح ووقع على إنسان آخر ، ومات ذلك الإنسان ، فإنه لا يحسن أن يقال له : لم قتلت ذلك الإنسان؟ لأنه لما كان غير (٤) مختار في ذلك الفعل لا جرم لا يتوجه عليه ذلك السؤال.
__________________
(١) من (م).
(٢) محبوب (س).
(٣) وجوه [الأصل].
(٤) غير من (س).