ذلك العلم إما أن يكون نظريا أو بديهيا ، فإن كان الأول ، افتقر ذلك العلم النظري إلى تقدم علوم أخرى عليه. والكلام فيها كما في الأول. ويلزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما محالان. فوجب الاعتراف بوجود علوم بديهية ضرورية ، يجب الاعتراف بها [لا لأجل حجة وبينة ودليل ، بل يجب الاعتراف بها (١)] لأعيانها ولذواتها. إذا ثبت هذا فنقول : إذا أردنا أن نعرف أن تلك العلوم البديهية ، ما هي؟ وكيف هي؟ قلنا : إنا إذا عرضنا قضية من القضايا على العقول السليمة ، والطباع المستقيمة ، فإذا رأينا أصحابها مطبقين (٢) على الاعتراف بها من غير شك ولا شبهة ، ومن غير حاجة فيها إلى [ذكر (٣)] دليل وحجة ، فذلك هو العلم [البديهي (٤)] الضروري الأزلي. ويكون جزم العاقل بأمثال هذه القضايا ، غنيا عن ذكر الحجة والبينة والدليل.
إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : صريح العقل يشهد بأن الشيء لا يحدث إلا عن مادة سابقة. وذلك يوجب قدم المادة. ولا مادة إلا الجسم. ومجموع هذه المقدمات الثلاثة ، يوجب قدم الجسم.
أما بيان المقدمة الأولى ، وهو أن الشيء لا يحدث إلا عن مادة سابقة ، فتقريره من وجوه :
الأول : إنا إذا شاهدنا إنسانا شيخا ، فإن صريح العقل يحكم بأنه ما حدث الآن مع صفة الشيخوخة دفعة واحدة ، بل إنه تولد عن الأبوين ، وكان جنينا ، ثم طفلا ، ثم شابا ، ثم صار الآن شيخا. ولو أن الإنسان تشكك في هذه الحالة ، وخطر بباله أنه لعله حدث الآن دفعة واحدة مع صفة الشيخوخة ، فإن كل أحد يقضي عليه بالجنون والعته. وأيضا : إذا شاهدنا قصرا مشيدا ، وبناء رفيعا ، ثم جوز مجوز [حدوثه (٥)] دفعة واحدة ، من غير سابقة وجود التراب
__________________
(١) من (ت)
(٢) مطبقين متفقين (ط)
(٣) من (ت)
(٤) من (ط)
(٥) من (ط ، س)