التعلق يصير فتحا لباب الآفات والمخافات. فإذا وقفت النفس على هذه المعاني ، وظهر عندها أن السعادة الكبرى في رجوع النفس إلى عالمها ، والاستسعاد بمعرفة البارئ ، ومجالسة الأرواح المقدسة الطاهرة ، فحينئذ يزول عنها ذلك العشق والميل. فإذا فارقت الجسد ، بقيت في تلك السعادات الدائمة».
قال : «ومثاله : مثال رجل حكيم له ولد ، فاتفق أن حصل في قلبه عشق شديد ، إلى أن يسافر إلى البلد الفلاني. وعلم ذلك الحكيم أن لو منعه منه ، فإنه لا يمتنع. فإن الحكمة تقتضي أن يمكن ذلك الحكيم ، ذلك الولد من الذهاب إلى ذلك البلد ، ويرسل معه إنسانا [فاضلا (١)] ينبهه على ما في تلك البلدة من الفضائح والقبائح ، وعلى ما في بلد أبيه من الخيرات والسعادات ، فإذا سافر الولد إلى تلك البلدة ، وشاهد ما فيها من الآفات.
وينبّهه ذلك المقارن ، على أسرار تلك الآفات ، فإنه يظهر له أن ذلك السفر كان خطأ. وحينئذ تقوى رغبته في بلدة أبيه. فإذا رجع إليها رجع عظيم النفرة عن تلك القرية ، شديد الرغبة في السكون ببلدة أبيه».
السؤال الخامس : أخبر عن كيفية هذا العشق؟.
أجاب عنه : «محمد بن زكرياء» فقال : «هذا العشق معلوم الثبوت بالضرورة ، فإن جميع الحيوانات مجبولة بطباعها على حب الحياة ، وعلى حب هذه اللذات الجسدانية ، فإذا فاز بهذه الخيرات الجسمانية ، كان ذلك عنده نهاية السعادة ، وإذا بقي محروما منها ، كان ذلك نهاية الشقاوة. وقد بلغ حب النفس لهذا الجسد ، إلى حيث نسيت النفس نفسها ، فإن الغالب على اعتقادات أكثر الخلق : أن الإنسان ليس إلّا هذا الجسد ، وأنه لا سعادة في الدنيا والآخرة ، إلا هذه اللذات الجسدانية ، حتى أن الزهاد الذين يعرضون عن هذه اللذات العاجلة ، إنما يعرضون عنها ، لينالوا لذة الأكل والنكاح في الآخرة. فيثبت بما ذكرنا : أن هذا العشق شديد. فإذا نالت النفس شيئا من هذه
__________________
(١) من (ت).