فوجب الجزم بأن النفس هي شيء غير البدن ، وغير كل واحد من أجزائه وهو المطلوب.
واعلم : أن الاعتبار المذكور يختص بالقوة النظرية ، وهو أيضا قائم في رياضة الإنسان إذا كان مواظبا على الأكل والشرب والتفرج والتنزه بالجسمانيات ، فإنه تختل قوته العقلية ، وتفسد ، ولا يبقى معه منها شيء يلتفت إليه ، أو يعتبر به فإن من المشهور في المثل : «البطنة تذهب بالفطنة» أما إذا راض الإنسان نفسه بالامتناع عن المأكولات ، والانقطاع عن اللذات الجسمانية ، وجلس في بيت مظلم بحيث لا يبصر شيئا ولا يسمع شيئا ، وتكلف إزالة الصور المحسوسة والمثل الجسمانية عن الفكر والخيال ، وواظب على هذه الحالة مدة [مديدة (١)] فإنه تصير نفسه في غاية الكمال ، وبدنه في غاية الضعف والنحافة. وهذا الاعتبار يدل على أن كل ما كان سببا لسعادة النفس ، فهو بعينه يصير سببا لشقاوة البدن. وكل ما كان سببا لشقاوة النفس فهو بعينه سبب لسعادة البدن. وذلك يدل على أن النفس شيء غير البدن ، وغير أجزاء هذا البدن وأعضائه.
وهاهنا وجه ثالث يناسب الوجهين الأولين ، وهو أن النوم بالنسبة إلى الجسد كالموت وبالنسبة إلى النفس كالحياة وكاليقظة. وذلك لأن الإنسان في حال اليقظة ، تكون نفسه كالنائمة عن عالم الغيب ، الغافلة عن أحوال ذلك العالم ، المعرضة عنها ، فإذا نام الإنسان بحسب جسده ، فحينئذ تحصل اليقظة [للنفس (٢)] فتتصل بعالم الغيب ، وتقف على بعض أحوال ذلك العالم ، وهو المنامات الصادقة ، الدالة على أحوال المغيبات ، فإذا استيقظت فقد حصلت اليقظة للبدن ، وصارت النفس نائمة منقطعة عن عالم الغيب.
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن حياة النفس ، وسعادتها ، ويقظتها ،
__________________
(١) من (م).
(٢) سقط (طا).