فالفاعل الذي لا يجد إلا تلك الآلة ، لا بد وأن يبقى مواظبا على ذلك الفعل ، وتكرر ذلك الفعل يوجب حصول الملكة الراسخة لذلك الفاعل ، إلا أن هذا الخيال إنما يحصل بعد المواظبة على ذلك الفعل زمانا طويلا. أما الصبيان فإنهم أول ما يشرعون [في الفعل. يشرعون (١)] على هذه الوجوه المختلفة ، فامتنع أن تكون تلك الأخلاق ، بسبب اختلاف الأمزجة والأبدان. وإنما قلنا : إنه لا يمكن أن يكون ذلك الاختلاف بسبب القرناء والمعلمين ، لأن الصبيان لم توجد في حقهم هذه الأحوال. ولما ظهر فساد هذين القسمين ، بقي القسم الأول وهو أن يكون ذلك الاختلاف ، لأجل اختلاف جواهر النفوس. وهو المطلوب.
الحجة الخامسة : إنا نرى أن النفوس تختلف في أحوال كثيرة ، ولا يمكن تعليل ذلك الاختلاف ، باختلاف الأمزجة مثل : إن بعض النفوس قد تقوى على تحصيل علم دقيق غامض ، وتعجز عن تحصيل علم سهل ، كالنحو والتصريف ، بل قد يختلف حال الفهم في مسائل العلم الواحد ، فقد يسهل تعلم الباب الواحد من علم ، ويصعب تعلم الباب الثاني. ومن تأمل في أحوال الناس ، عرف أن الأمر كذلك. والنفس هي الأصل ، والبدن محل تصرفها ، ومنزل عملها. وإحالة هذه الأحوال المختلفة على المبدأ الأصلي ، أولى من إحالتها على اختلاف الآلات والأدوات ، لا سيما والعلم الضروري حاصل بأنه يبعد أن يقال : السبب في كون الإنسان بحيث يفهم المنطق ، أسهل ، والإلهي أصعب : هو وقوع التفاوت في الأمزجة.
الحجة السادسة : إنا نرى الاختلاف العظيم في الحيوان الذي ليس بناطق ، فبعضها آنسة نافعة كالأنعام والخيل والبغال والحمير ، وبعضها مفسدة مؤذية كالأسد والنمر والذئب، وبعضها ذو مكر وخداع كالقرد والثعلب [وبعضها يحب الانفراد كالذئب والأسد (٢)] وبعضها يحب الاجتماع كالخيل والبقر والغنم ، وبعضها يجمع الغذاء ويدخره لنفسه كالنمل والنحل ، وبعضها
__________________
(١) سقط (م).
(٢) سقط (طا ، ل).