فإذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الحال في الشرايين كذلك؟ فإن تلك الصفات التي ذكرها «جالينوس» كانت حاصلة للشرايين من وقت انشعابها من القلب إلى وقت نفوذها في جرم الدماغ. أما بعد ذلك فقد حدثت لها صورة أخرى ، وخلقة أخرى ، بخلاف الصورة الأولى.
وهذا الاحتمال لا يبطل بما ذكره «جالينوس» والدليل عليه : أن الفلاسفة اتفقوا على أن الطبيعة ، متى أمكنها الاكتفاء بالآلات القليلة ، لم تعدل عنه إلى إعداد الآلات الكثيرة. فههنا هذه الأجسام المسماة بالشريانات ، صورت بصور موافقة لتحصيل مطلوب معين ، وهو إيصال الدم والروح إلى الدماغ ، فلما حصل هذا المقصود ، فحينئذ تركب الطبيعة تلك الأجسام على صورة أخرى ، صالحة لمقصود آخر ، وهي صبورة الأعصاب. فثبت : أن الكلام الذي ذكره جالينوس لا يمكن جعله طعنا في مذهب «خروسيس».
وأما جوابه الثاني : فضعيف أيضا. وذلك لأن الروح القلبي ، كما صعد إلى الرأس في الشرايين الصغيرة ، فقد صعد أيضا إلى أسفل البدن في الشرايين الصغيرة. ثم إن القسم الصاعد إلى الرأس ، تغير عن حالته بسبب وصوله إلى جرم الدماغ ، وصار روحا دماغيا حاملا لقوة الحس والحركة.
وأما القسم النازل من الأرواح القلبية ، لما وصلت إلى الرجلين ، فلم يتغير عن حالته البتة. فلم لا يجوز أن يكون الحال في أجرام الشريانات كذلك؟ وتمام التقرير فيه : أنا ذكرنا أن الطبيعة تسعى في تقليل الآلة (١) ففي الدماغ احتاجت الطبيعة إلى إعداد آلة حاملة لقوة الحس والحركة ، فلا يبعد تكوين تلك الآلة من تلك الشظايا الشريانية. ولم توجد هذه الحاجة(٢) في الرجلين. فظهر الفرق ، وثبت بهذا البيان الذي ذكرناه : أن الكلام الذي ذكره «جالينوس» في إبطال الاحتمال ، الذي ذكره «خروسيس» في غاية الضعف والسقوط.
__________________
(١) الحاجة (م).
(٢) الحالة (ل).