لكن بواسطة الاستعانة بآلة جسمانية. فنقول : إن كلامنا الآن ليس في كيفية الآلات والأدوات ، بل في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات وشاعرة بها ، من حيث إنها هي. فإن نازعتم فيه ، أوردنا عليكم الدليل المذكور. وإن سلمتموه فهو المطلوب.
والعجب من هؤلاء الفلاسفة : كيف غفلوا عن أمثال هذه الدلائل الظاهرة ، واشتغلوا بتركيب تلك الوجوه الضعيفة ، وملئوا الكتب منها ، واستمروا عليها في الأدوار المتطاولة ، والأعصار المتباعدة.
الحجة الثالثة في إثبات ما ذكرناه : إن العلوم إما نظرية وإما ضرورية. وقد ذكرنا مرارا : أنه لا بد من الاعتراف بالعلوم الضرورية ، وإلا لزم التسلسل والدور ، وهما محالان. فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بالعلوم الضرورية والبديهية. وأجلى العلوم البديهية وأقواها وأكملها ما يحكم به صريح الفطرة ، وبديهة العقل. إذا عرفت هذا ، فنقول : كل واحد يعلم بالضرورة : أنه (١) هو الذي رأى المبصرات ، وسمع المسموعات ، وذاق المطعومات ، ولمس الملموسات ، وأدرك المشمومات ، وتصور المتخيلات ، واستحضر المذكورات والمنسيات ، وأنه هو الذي يحرك يده إلى الأخذ ، ويحرك رجله إلى المشي. ولو نازع منازع في كون الإنسان موصوفا بهذه الصفات ، وآتيا بهذه الأفعال ، لكان ذلك النزاع واقعا في أظهر العلوم الضرورية. وذلك يدل على أن صريح الفطرة شاهدة بأن الإنسان هو الموصوف بهذه الصفات ، وهو الفاعل لهذه الأفعال. ولما كان الإنسان عبارة عن النفس ، وجب أن تكون النفس هي الموصوفة بهذه الصفات ، وهي الآتية بهذه الأعمال.
فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد من قول القائل : أبصرت كذا ، وسمعت كذا ، هو أن قوة من القوى التابعة لذاتي أبصرت كذا. وقوة أخرى سمعت كذا؟ قلنا : فعلى هذا التقدير لم يكن الإنسان مبصرا للمبصرات ، ولا
__________________
(١) أن هذا الذي (ط).