الحجة الرابعة : إن هذه اللذات الحسية ، إذا بحث عنها ، فهي في الحقيقة ليست لذات. بل حاصلها يرجع إلى دفع الآلام.
والدليل عليه : أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا ، كان التذاذه بالأكل أكمل ، وكلما كان الجوع أقل ، كان التذاذه بالأكل أقل. وأيضا : إذا طال عهد الإنسان بالوقوع ، اجتمع المني الكثير في أوعية المني ، فحصلت في تلك الأوعية دغدغة (١) شديدة ، وتمدد وثقل ، وكلما كانت هذه الأحوال المؤذية أكثر ، كانت اللذة الحاصلة عند اندفاع ذلك المني أقوى. ولهذا السبب فإن لذة الوقاع في حق من طال عهده الوقاع ، تكون أكمل منها في حق من قرب عهده به. فثبت : أن هذه الأحوال ، التي يظن أنها لذات جسمانية ، فهي في الحقيقة ليست إلا دفع الآلام. وهكذا القول في اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب ، فإنه لا حاصل لتلك اللذة ، إلا دفع ألم الحر والبرد. وإذا ثبت أنه لا حاصل لهذه اللذات ، إلا دفع الآلام. فنقول : ظهر أنه ليس فيها سعادة. لأن الحالة السابقة هي حصول الألم ، والحالة الحاضرة عدم الألم. وهذا العدم كان حاصلا عند العدم الأصلي. فثبت : أن هذه الأحوال ليست سعادات ولا كمالات البتة.
الحجة الخامسة : إن الإنسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذي ، يشارك سائر الحيوانات. وإنما يمتاز عنها بالإنسانية ، وهي مانعة من تكميل تلك الأحوال ، وموجبة لنقصانها ولتقليلها. فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة ، لكان الإنسان من حيث إنه إنسان ، ناقصا شقيا خسيسا. ولما حكمت البديهة بفساد هذا التالي ، ثبت فساد المقدم.
الحجة السادسة : إن العلم الضروري حاصل بأن بهجة الملائكة وسعاداتها أكمل وأشرف من بهجة الحمار وسعادته. ومن بهجة الديدان والذبان وسائر الحشرات. ثم لا نزاع : أن الملائكة ليس لها لذة الأكل والشرب
__________________
(١) دعدعة (ط).