القدر القليل من تلك البخارات التي هي الأرواح (١) لما حصل لها ذلك القدر من الصفاء والنورانية ، صار المتعلق الأول للنفس الناطقة تلك الأجسام ، وصارت الأعضاء إنما تجد قوة الحياة وقوة الإحساس ، لأجل وصول تلك الأرواح إليها. فالأجرام الفلكية مع غاية صفائها وإشراقها وجلالة جوهرها ، أولى أن تكون متعلقة للنفوس العالية المشرقة الإلهية.
وأما القوة الثانية من قوى النفس وهي الحركة الإرادية : فإنا نرى أن القلب كلما كان في الحركة ، كانت القوة النفسانية باقية. فلما صار القلب مع كثافته مستعدا لقبول الحياة ، بواسطة كونه دائم الحركة. فالأجرام الفلكية مع نهاية سرعتها في الحركات ، أولى بأن تكون موصوفة بالحياة. وبالجملة : فالنور يناسب الإدراك ، والعلم والحركة يناسب الفعل. فإذا كان لا مناسبة [لأنوار تلك الأجسام إلى أنوار هذا العالم ، ولا مناسبة (٢)] لحركات تلك الأجرام إلى حركات هذه الأجرام ، وجب الجزم بأنه لا مناسبة لحياة تلك الأجسام في الشرف والجلالة ، إلى حياة هذه الأجسام.
الحجة الرابعة : قد دلت الشواهد (٣) الرياضية : على أن جميع العناصر الأربعة ، بالنسبة إلى كلية الأفلاك ، كالمركز بالنسبة إلى الدائرة العظيمة. وبديهة العقل حاكمة : بأن الحياة أفضل من الجمادية. فلو كانت الأجرام الفلكية خالية عن الحياة ، لكان معظم مخلوقات الله تعالى ناقصة خالية عن آثار رحمة الله تعالى وحكمته ، وذلك بعيد. وأيضا : فالأجسام الفلكية لا نسبة لها في البقاء والنقاء والصفاء إلى هذه الأجسام الخسيسة العنصرية. والحياة والعقل ، لا نسبة لهما في الشرف والفضيلة إلى الجمادية والموت. فتخصيص الأجرام الخسيسة بالصفات الشريفة العالية ، وإخلاء الأجرام الشريفة العالية عن الصفات الشريفة على مضادة الرحمة والحكمة. وذلك في غاية البعد.
__________________
(١) للأرواح (ط).
(٢) سقط (ط).
(٣) الدلائل (م).