الثالث : إن النفس الناطقة جوهر مجرد. وهي مدبرة لهذا البدن المعين. فإما أن تدبر هذا البدن بإدراكات كليه وقصد كلي. وإما أن تدبره بإدراكات جزئية وقصد جزئي. فإن كان الأول ، فقد بطل قولكم : إن القصد الكلي لا يصدر عنه أفعال جزئية. وإن كان الثاني ، فقد بطل قولكم : إن الجوهر المجرد لا يكون صاحب الإدراكات الجزئية. وعلى كلا التقديرين ، فإنه يبطل كلامكم.
وأقول : حقا إني شديد التعجب من غفلة هؤلاء الأقوام عن هذه الكلمات الظاهرة. فهذا هو الكلام على دليلهم.
والمختار عندي : أن النفس الفلكية جوهر مجرد عن الجسمية وعلائقها. ومع هذا ، فإنها موصوفة بالإدراكات الجزئية ، والإرادات الجزئية. وكذلك أيضا موصوفة بالإدراكات الكلية ، والإرادات الكلية. فهي عارفة بربها ، وقاصدة بهذه الحركات : عبادة ربها وخالقها ومدبرها. وعلى هذا التقدير ، فقد زالت الشكوك والشبهات. ويتفرع على ما ذكرنا : فروع. وهي : أن المسمى بنفس الكل (١) هي نفس الفلك الأعظم. وذلك لأن سائر الأفلاك موجودة في باطن الفلك الأعظم. فهي كالأجزاء من الفلك الأعظم. ونفوسها كالقوى المتشعبة من نفس الفلك الأعظم ، كما أن القوى المتشعبة عن النفس الناطقة الموجودة في كل واحد من الأعضاء المخصوصة كالنتائج والآثار والشعب لجوهر النفس الناطقة. فثبت بما ذكرنا : أن تدبير الحق سبحانه لعالم الأجسام ، إنما ابتدأ من الفلك الأعظم ، الذي هو العرش. وذلك الابتداء إنما حصل بواسطة تلك النفس التي هي النفس الفلكية. وأما سائر النفوس الفلكية والعنصرية ، فهي نتائجها وشعبها وأولادها. وإليه الإشارة في الدعاء المشهور وهو قوله عليهالسلام : «اللهم إني أسألك بمعاقد عزك؟؟؟ على أركان عرشك» فالمراد من معاقد العز : هو جوهر تلك النفس الكلية وشعبها ، المنبثة منها في أجزاء العرش.
__________________
(١) الفلك (م).