إلا هذا المعنى ، وهو أن الجماد لا شعور له البتة ، ولا إدراك له البتة ، فلو كان جسم البدن خاليا عن الشعور والإدراك ، لكان جمادا محضا. لكنا نعلم بالضرورة : أن أبدان الحيوانات حال كونها أحياء ، ليست جمادات [محضة (١)] وكيف لا نقول ذلك ، وإن من وضع إصبعه على الجمر فإنه يحس بالألم في ذلك الموضع؟ ولو وضع إصبعه على الجمر ، فإنه يحس بنوع آخر من الألم في ذلك الموضع. فالقول بأن البدن جماد محض لا شعور فيه ، ولا إدراك : إنكار لأعظم البديهيات.
فثبت : أنه حصل في أبدان الحيوانات : قوة شعور وإحساس بالأشياء المخالفة [والموافقة (٢)] ولا نريد من قولنا : إن النفس مدركة للجزئيات إلا ذلك.
والمقدمة الثانية : في بيان أن هذا البدن مدرك للكليات. فنقول :
الدليل على صحة هذه المقدمة : إنا بينا : أن البدن مدرك للجزئيات ، وكل ما كان مدركا للجزئيات ، فإنه يجب أن يكون مدركا للكليات. والدليل عليه : إن هذا الألم عبارة عن الألم مع قيد كونه هذا ، ومدرك المركب ، لا بد وأن يكون مدركا لمفرداته ، لما ثبت في المنطق في باب الذاتي المقوم : إن تصور المركب ، مسبوق بتصور مفرداته. فثبت : أن مدرك هذا الألم مدرك للألم ، والألم ماهية كلية ، فثبت : أن مدرك الجزئيات ، يجب أن يكون مدركا للكليات. وأيضا : قد بينا أن البدن يبصر هذا الإنسان ، وهذا الإنسان عبارة عن الإنسان مع قيد كونه هذا. فمبصر هذا الإنسان يجب أن يكون قد أبصر الإنسان. وأبصر كونه هذا. لكن الإنسان من حيث إنه إنسان ماهية كلية. فالقوة الباصرة قد أدركت الماهية الكلية.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن القوة الباصرة لما أدركت هذا الإنسان ، فهي ما أدركت إلا مجرد كونه هذا ، فأما الإنسان فهو غير مبصر.
__________________
(١) من (م).
(٢) من (م).