الوجه الثاني في بيان أن التوبة يمتنع حصولها إلا بتخليق الله تعالى : أن نقول : التوبة عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مترتبة بعضها على البعض. وتلك الثلاثة هي : العلم ، والحال ، والعمل. فالعلم أول ، والحال ثاني ـ وهو معلول العلم ـ والعمل ثالث ـ وهو معلول الحال.
أما العلم فهو معرفة ما في الذنوب من المضار ، ثم يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة ، ونزول المضرة. ثم يتولد من ذلك الألم أحوال عملية ، لها تعلق بالحال والماضي والمستقبل. وأما تأثيره في الحال. فبأن يترك ذلك الذنب ، الذي كان ملابسا له. وأما تعلقه بالماضي. فبأن يتلافى ما فات بالقضاء ، إن كان قابلا للقضاء. وأما تعلقه بالمستقبل. فبالعزم على ترك ذلك العمل إلى آخر العمر.
فالعلم هو الأول. وهو مطلع هذه الخيرات. وأعني بهذا العلم : اشتمال الذنوب على المضار العظيمة ، ويجب أن يكون هذا الإيمان يقينيا متأكدا ، خاليا عن الشكوك والشبهات، وإلا لم يكن علما ، بل يكون ظنا. غير أن ذلك اليقين إذا استولى على القلب ، أوجب تألم القلب. وذلك العلم يوجب الأمور الثلاثة ، بحسب الأزمنة الثلاثة.
إذا عرفت هذا فنقول : الاعتقاد الجازم في كون الذنب ، سببا لحصول المضار العظيمة يوجب النفرة عن الذنوب. وهذه النفرة توجب الترك في الحال ، والعزم على الترك في المستقبل. فترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله ، ترتب ضروري واجب بالذات ، فلا يمكن للعبد فيه مكنة واختيار.
بقي أن يقال : الداخل تحت التكليف هو تحصيل ذلك العلم. لكنا بينا بالبراهين القاهرة : أن تحصيل العلم ليس مقدورا للعبد. فثبت بما ذكرنا : أن حصول التوبة ليس إلا من الله تعالى. ولما ثبت أن مذهبنا تقوى بالدلائل العقلية ، كان مذهبنا أولى من مذهبكم. وبالله التوفيق.
الحجة الثالثة : قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (١)
__________________
(١) سورة ابراهيم ، آية : ٣٧.