الوجه الثاني في تقرير ذلك : أن العقلاء يعلمون بالضرورة : حسن ذم من أساء إليهم ، ومدح المحسن إليهم. ويعلمون بالضرورة : قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا ، وكون السماء [فوقه (١)] والأرض تحته. ولو لا علمهم الضروري بكون العبد محدثا لأفعاله ، لما علموا بالضرورة حسن مدحه وذمه على أفعاله ، وقبح مدحه وذمه على ما لا يكون واقعا به. لأن العلم بحسن المدح والذم لما كان فرعا على العلم بحدوث ذلك منهم ـ والعلم بالفرع إذا كان ضروريا ، كان العلم بالأصل أولى أن يكون ضروريا ـ لزم القطع بأن علم العقلاء بكونهم محدثين لتصرفاتهم : علم ضروري بديهي. ولأجل ظهور هذا العلم عند العقلاء ، حصل هذا العلم للمراهقين. فإن الإنسان إذا رمى المراهق بآجرة ، فإنه يذم الرامي ولا يذم تلك الآجرة. ولو لا أنه عالم (٢) بالضرورة : بأن الرامي فاعل ، وأن الآجرة ما فعلت شيئا ، وإلا لما فرق بينهما من الوجه المذكور.
الثالث : إن الواحد منا يجد من نفسه ـ ومن غيره ـ إذا طلب فعلا من غيره ، أنه يطلب منه طلب عالم بأنه [هو (٣)] الذي يحدث ذلك الفعل. ولذلك فإنه يتلطف في استدعائه ذلك الفعل منه ، بكل لطف وينهاه عن فعل ما يكرهه ، ويعنفه على فعله ، ويتعجب من فعله ، ويستظرفه ، ويعجب العقلاء في فعله. ويعلل كل ذلك : بأن فعله. وأيضا : فنجد من أنفسنا : الفرق الضروري بين أمره بالقيام والقعود ، وبين أمره بإيجاد السماء والكواكب. ولو لا أن العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا ، وإلا لما صح ذلك.
قالوا : فهذه الوجوه الثلاثة : منبهة على أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. وهذا غاية تقرير مذهب «أبي الحسين البصري» في هذه المسألة.
__________________
(١) من (ط).
(٢) علم (م).
(٣) سقط (م).