الاعتبار عبثا محضا. فثبت بما ذكرنا : أن المقصود من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب عليهم : ليس إلا هذه الأمور ، وثبت : أنها بأسرها لا تقرر إلا على القول بالعدل ، وإبطال القول بالجبر والجور. فثبت : أن جميع كتب الله ناطقة بفساد القول بالجبر (١).
__________________
(١) في التوراة : «إن هذه الوصية التي أوصيك بها اليوم ، ليست عسرة عليك. ولا بعيدة منك. ليست هي في السماء ، حتى تقول : من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذها لنا ويسمعنا إياها ، لنعمل بها. ولا هي في عبر الحبر ، حتى تقول : من يعبر لأجلنا البحر ويأخذها لنا ويسمعنا إياها ، لنعمل بها. بل الكلمة قريبة منك جدا. في فمك وفي قلبك لتعمل بها» [تثنية ٣٠ : ١١ ـ ١٤].
ومعلوم أن أ ـ الوصية هي الشريعة. ب ـ والغرض من الشريعة : العمل بها. ت ـ والعمل بها يستلزم أن يكون الإنسان قادرا على الفعل ، وقادرا على الترك.
وفي الإنجيل : يستدل المسيح عليهالسلام بنص التوراة السابق على كون الإنسان حرا. يقول المسيح : «أما كون الإنسان حرا ، فواضح من كتاب موسى. لأن إلهنا عند ما أعطى الشريعة على جبل سيناء. قال هكذا : «ليست وصيتي في السماء لكي تتخذ لك عذرا قائلا : من يذهب ليحضر لنا وصية الله؟ ومن يا ترى يعطينا القوة لنحفظها؟ ولا هي وراء البحر ، لكي تعد نفسك كما تقدم. بل وصيتي قريبة من قلبك ، حتى إنك تحفظها متى شئت» ... الخ [برنابا ١٦٤].
وفي إنجيل لوقا يقول المسيح : «ولا تبتدءوا تقولون في أنفسكم : لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم : إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا ، تقطع وتلقى في النار» [لوقا ٣ : ٨ ـ ٩].
وبولس قد حرف نص التوراة عن مواضعه ـ النص الذي استدل به المسيح على الحرية ـ بقوله : إن المراد من وصية الله هي الإيمان بالمسيح ربّا مصلوبا. وأما العمل فإنه غير واجب على الإنسان إذا آمن بالمسيح ، لأن المسيح ألغى الأعمال بصلبه فداء عن الخطايا. وتفسير بولس باطل لأنه إذا ألغى الأعمال ونادى بأن المسيح هو الإله الخالق للعالم. فإن يكون داعيا إلى هدم الشريعة من أساسها [انظر الرسالة إلى أهل رومية].
وفي القرآن الكريم يقول تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي من كانت نيته متجهة إلى الضلال واستحب الضلال على الهدى. فإن الله يضله. ولقد سأل المسيح عن سبب ضلال الله لفرعون. فأجاب بقوله : «إنما فعله لأنه نكل بشعبنا وحاول أن يبغى عليه بإبادة كل الأطفال الذكور من إسرائيل ، حتى كاد موسى أن يخسر حياته» [برنابا ٦٦].