والذي يدل على صحة هذه المقدمة : إن ماهيات أفعال العباد قابلة للمعدوم ، وقابلة للموجود ، قبولا على التساوي ، من غير رجحان أصلا البتة (١). فلو فرضنا أنه لا يرجح أطراف وجود هذه الأفعال على طرف عدمها ، إلا قدرة العبد. ثم إن قدرة العبد غير موجبة لذلك ، بل هي صالحة للفعل والترك [ولم يكن (٢)] أيضا هذا الرجحان. لا ابتداء ولا بواسطة. لأن التقدير أنه لم يوجد في الأزل ما يوجب تلك الأفعال. لا ابتداء ولا بواسطة. وإلّا فالجبر لازم. وإذا كان الأمر كذلك ، كانت أفعال العباد في أنفسها قابلة للعدم ، وقابلة للوجود على السوية. ولم يكن هناك البتة ما يقتضي رجحان وجودها على عدمها. فلو اعتقد معتقد فيها : كونها راجحة الوجود على العدم ، كان ذلك الاعتقاد : اعتقادا غير مطابق. فكان جهلا. والجهل على الله محال. فثبت : أنه تعالى لو لم تتعلق قدرته في الأزل بإيقاع تلك الأفعال في لا يزال ، ولم يتعلق أيضا بإيقاع ما يوجب وقوع تلك الأفعال في لا يزال ، كان اعتقاد أنها ستقع في لا يزال ، اعتقادا غير مطابق للمعتقد ، وإنه جهل. وهو على الله محال. وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إن قدرته تعالى في الأزل ، تعلقت بإيقاع هذه الأفعال في لا يزال ، أو بإيقاع ما يوجب هذه الأفعال في لا يزال ، حتى يكون علمه بأنها ستقع في لا يزال : علما ، ولا يكون جهلا.
فإنه قيل : إنه تعالى يعلم في الأزل أن فعل العبد سيترجح وجوده على عدمه ، في الوقت الفلاني ، وفي ذلك الوقت يكون المقتضى لترجح وجوده على عدمه حاصلا. فأما لمّا فرضنا أن المقتضى لذلك الترجح ، هو قدرة العبد. وفرضنا أن قدرة العبد حاصلة في ذلك الوقت. فعلى هذا التقدير ، كان المقتضى لترجحه حاصلا في ذلك الوقت.
والجواب : إن هذا سوء فهم ، لما ذكرناه. وذلك لأنه تعالى يعلم في الأزل أن وجود الفلاني سيترجح على عدمه في الوقت الفلاني في لا يزال.
__________________
(١) والبتة (م ، ط).
(٢) سقط (ط).