فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لا شيء لنا فيه ، وإحسان منه إلينا لم نستحقه قط عليه.
وأخبرنا عزوجل أن ما أصابنا من سيئة فمن أنفسنا بعد أن قال إن الكل من عند الله ، فصح أننا مستحقون النكال لظهور السيئة منا ، وأننا عاصون بذلك كما حكم علينا ـ تعالى ـ وحكمه عزوجل الحقّ والعدل ولا مزيد ـ وبالله التوفيق.
فإن قالوا : فإذا كان الله عزوجل خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء.
قلنا : كلا ، لأن الله تعالى خلق فينا علما نعرف به أنفسنا والأشياء على ما هي عليه ، وخلق فينا مشيئة لكل ما خلق فينا مما يسمى فعلا لنا ، فخلق فيه استحسان ما نستحسنه ، واستقباح ما نستقبحه ، وخلق فينا تصرفا في الصناعات والعلوم ، ولم يخلق في الجمادات شيئا من ذلك فنحن مختارون ، قاصدون ، مريدون ، مستحسنون ، أو كارهون ، متصرفون علما ، بخلاف الجمادات.
فإن قيل : فأنتم مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم.
قلنا : لا ، لأن الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله ـ عزوجل ـ إذ كل ما في العالم مخترع له وملكه ـ عزوجل ـ والتفويض فيه معنى من الاستغناء بأحد من الله ـ عزوجل ـ وبه نتأيد.
قال أبو محمد : فإذ قد أبطلنا بحول الله وقوته كل شغب المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله ـ عزوجل ـ فلنأت ببرهان ضروري إن شاء الله ـ تعالى ـ على صحة القول على أنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ وبه التوفيق.
فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم : إن العالم كله ما دون الله ـ تعالى ـ ينقسم قسمين ـ جوهر ، وعرض لا ثالث لهما ، ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ، وينقسم العرض إلى أجناس وأنواع ، ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه جنس واحد ، وبالضرورة نعلم أنّ ما لزم الجنس الأعلى لزم كل ما تحته إذ من المحال أن تكون نار غير حارة ، أو هواء راسب بطبعه ، أو إنسان صهّال بطبعه ، وما أشبه هذا.
ثم بالضرورة نعلم أن الإنسان لا يفعل شيئا إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة ، وهذه كلها كيفيات يجمعها مع اللون والطبع والمجسّة والأشكال جنس الكيفية ، فمن المحال الممتنع أن يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقا ، وبعضه غير مخلوق ، وهذا أمر يعلمه باطلا من له أدنى علم بحدود العالم