من جملة من قد اجترح السيئات ، وأما من بلغ فآمن ، وذكر الله تعالى ثم مات ، فقد كان هذا ممكنا في طبيعة العالم وفي بنيته لو لا قول الله عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية رقم ٢١].
فإن الله تعالى قطع قطعا لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجترح السيئات كمن لم يجترحها ونحن نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهمالسلام ، ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن يكون من أسلم إثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه. (١)
فإذ هذا كما قلنا فقول الله عزوجل وقول رسوله صلىاللهعليهوسلم أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليهالسلام : «ما من أحد إلا ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا» (٢) فنحن نقطع قطعا بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئات الله أعلم بها وبالله التوفيق.
قال أبو محمد : ومن البرهان على أنه لا يمكن البتة أن يعصي نبي بعمد قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» (٣) لما قال له الأنصاري هلا أومأت إليّ في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفى عليهالسلام عن جميع الأنبياء عليهمالسلام أن تكون لهم خائنة الأعين ، وهو أخف ما يكون من الذنوب ، ومن خلاف الباطن للظاهر ، فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها.
قال أبو محمد : وأيضا فإننا مندوبون إلى الاقتداء بالأنبياء عليهمالسلام وإلى الائتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [سورة الأحزاب : آية رقم ٢١].
وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام آية رقم ٩٠].
__________________
(١) الحديث رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم باب ٥. ومسلم في فضائل الصحابة (حديث ٢٢١ و ٢٢٢) وأبو داود في السنّة باب ١٠. والترمذي في المناقب باب ٥٨. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (٣ / ١١ ، ٥٤).
(٢) تقدم تخريجه. انظر الفهارس العامة.
(٣) رواه أبو داود في الحدود باب ١ ، والجهاد باب ١١٧. والنسائي في تحريم الدم باب ١٤. ولفظة : «لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين».