ورؤسائهم والبراءة منهم ، ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ، ويرون أن حرقهم بالنار أخفّ عليهم من مخالفة الإسلام.
وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا ، فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ، ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام ، وكل ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه ، وفي غاية النفار عن كل ما يتعرض فيه بشك ، ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان ، فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها ، كما خبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ سئل عن ذلك فقالوا له : «إنّ أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحبّ إليه من أن يتكلّم به» (١) فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان ، وأمر صلىاللهعليهوسلم في ذلك بما أمر به من التعوذ ، والقراءة ، والتفل عن اليسار. ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ، ولله تعالى الحمد ، فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق ، وصرنا كمن عرف وقد أيقن بكون الفيل موجودا سماعا ولم يره ثم رآه ، فلم يزدد يقينا بصحة إنّيّته (٢) أصلا ، لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة ، التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس ، وعلمنا أنّا كنا مقتدين بالخطإ في ذلك ولله تعالى الحمد.
وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد ، فصح بما قلنا أن كل من أمحض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون ، وليسوا مقلدين أصلا ، وإنما كانوا يكونوا مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ، ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلىاللهعليهوسلم لتركناه ، فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين ، لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم ، ولم يتبعوا النبي صلىاللهعليهوسلم الذي أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق.
وإنما كلف الله تعالى الإتيان بالبرهان إن كانوا صادقين ـ يعني الكفار ـ المخالفين لما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبراهين ، وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان.
__________________
(١) رواه مسلم في الإيمان (حديث ٢٠٩) وأبو داود في الأدب (باب ١٠٩) وأحمد في المسند (٢ / ٣٩٦).
(٢) الإنيّة : الوجود.