مستقر الأرواح
قال أبو محمد : اختلف الناس في مستقر الأرواح ، وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين.
فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببرهوت ، وهو بئر بحضرموت ، وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية (١). وهذا قول فاسد ، لأنه لا دليل عليه أصلا ، وما لا دليل عليه فهو ساقط ، ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكانا آخر غير ما ادعاه هؤلاء ، وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول ، وبالله تعالى التوفيق.
وذهب عوامّ أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها ، وهذا قول لا حجة له أصلا تصححه إلا خبر ضعيف لا يحتج بمثله ، لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث ، وما كان هكذا فهو ساقط أيضا. وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين ، فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلا.
ومن عجائب أصحاب هذه المقالة الفاسدة ، قولهم : إن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك ، وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفنى ، ثم روح ثم تفنى ، وهكذا أبدا ، وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية ، وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام. وزاد بعضهم فقال إن صحّت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب ، وهذا أيضا حمق آخر ، ودعاوى في غاية الفساد. وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذّب أو ينعم ، وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ ابن آدم يأكله التّراب ، إلّا عجب الذّنب ، منه خلق وفيه يركّب» (٢).
__________________
(١) الجابية : قرية من أعمال دمشق ، ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصّفر في شمالي حوران. انظر مراصد الاطلاع (ص ٣٠٤ ، ٣٠٥).
(٢) رواه البخاري في تفسير سورة ٣٩ باب ٣ ، وسورة ٧٨ باب ١. ومسلم في الفتن حديث ١٤١