الحقائق كلها ، وأيضا فإنا نجد المرء مستطيعا ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه ، وبتكتيف أو ضبط أو إغماء ، وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء ، فصح بالضرورة أن الذي عدم من الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم منه شيء ، هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس ، وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض يقبل الأشد والأضعف. فنقول : استطاعة أشد من استطاعة ، واستطاعة أخف من استطاعة ، وأيضا فإن الاستطاعة لها ضد وهو العجز ، والأعراض لا تكون إلا أعراضا تقسم طرفي البعد ، كالخضرة والبياض ، والعلم والجهل ، والذكر والنسيان ، وما أشبه هذا.
وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ، ومعاند مكابر الضرورة ، والمستطيع جوهر ، والجوهر لا ضدّ له ، فصح بالضرورة أن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك ، وأيضا فلو كانت الاستطاعة هي غير المستطيع لكان العجز أيضا هو العاجز اليوم وهو المستطيع بالأمس ، فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع ، فإن لاذوا عن هذا ، لزمهم أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه ، وهذا محال ظاهر ، فإن قالوا إن العجز غير المستطيع وهو آفة دخلت على المستطيع ، سئلوا : ما الفرق الذي من أجهله قالوا إن الاستطاعة غير المستطيع ، ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز؟ ولا سبيل إلى وجود فرق في ذلك ، وبهذا نفسه يبطل قول من قال : إن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضا للجسم وأما من قال إن الاستطاعة هي كل ما يوصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو ، والحبل ، وما أشبه هذا فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الآيات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل.
فإن قالوا : وقد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح فلا يمكن الفعل ، قلنا : صدقتم ، وبوجود هذه الآلات يتم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع ، فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ، ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ، ولم يصح تفاهم أبدا. وقد علمنا يقينا أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا مهماز ولا على إبرة.
فإن قالوا : قد صح عن أئمة اللسان كابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهما أن الاستطاعة زاد وراحلة. (١) قيل : نعم قد صح هذا ولا خلاف من أحد له فهم باللغة
__________________
(١) روى الترمذي في الحج باب ٤ (حديث ٨١٣) وابن ماجة في المناسك باب ٦ (حديث