وبالجملة ، فهذا القاسر الجامع الحافظ ، هو نفس المولود التي هي واحدة بالذات ، مختلفة باعتبار القوى والآثار والأفعال والكمالات. ويصدر عنها في كلّ حالة من حالاتها الجمع والحفظ معا ، ما سوى مرتبة كون تلك القوّة بحيث لا تسمّى نفسا ، بل صورة منويّة ، فإنّ فعلها في تلك المرتبة ، إنّما هو حفظ مزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة لا الجمع ، حيث إنّ الجامع للأجزاء الغذائية التي يتبع جمعها المزاج المنويّ ، إنّما هو نفس الأبوين لا نفس المولود. وليس في ذلك تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين من حيث فعلهما الطبيعي تدبيره إلى الآخر ، كما أشرنا إليه ، أي من جهة أنّ الجمع والحفظ وإن كان كلاهما فعلين طبيعيّين ، والمفروض أنّ نفس الأبوين فوّضت الحفظ إلى نفس المولود. إلّا أنّه ليس فيه تفويض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى نفس المولود ، حيث إنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو الجمع ، وهي لم تفوّضه إلى نفس المولود بل الصادر من نفس المولود في تلك المرتبة إنّما هو الحفظ خاصّة دون الجمع ، فتبصّر.
ثمّ إنّه عند حدوث المزاج المنويّ تستعدّ تلك الأجزاء التي هي مادّة إنسان لحدوث نفس من المبدأ الفيّاض متعلّقة بها ، لا قائمة بها ، وبعبارة اخرى إنّه عند ذلك يستعدّ البدن لكون القوّة المتعلّقة به يتزايد كمالها بحيث تسمّى نفسا وهذه القوّة وهذه النفس وهي التي قلنا إنّها واحدة بالذات ، مختلفة باعتبار القوى والكمالات يصدر عنها الجمع والحفظ معا ، وبذلك يظهر معنى قول الشيخ : «إنّ المزاج والبدن علّة بالعرض للنفس ،» وعسى أن نأتي على زيادة إيضاح لهذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأمّا وجه الجمع بين ما ذكره في الشفاء في ذلك الاحتمال الثالث ، من أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج والتركيب.
وما نقلناه عنه في الكتابين ، من أنّ النفس جامعة لاسطقسات البدن وحافظة للبدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه ، وأنّ الالتيام الواقع في أجزاء البدن إذا لحق جامعه وحافظه ـ أي علّته التي هي النفس ـ وهن او عدم يتداعى إلى الانفكاك.
فبيانه أنّ هذا الجمع والحفظ سواء كان متعلّقهما الأجزاء البدنيّة أو المزاج البدني حيث كانا فعلين حاصلين في مادّة يستدعيان فاعلا وقابلا وفاعلهما النفس ، كما دلّ عليه كلام