في الشفاء ، وبه تمّ دليله على أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد ، واندفع عنه الأنظار الموردة عليه ، كما أشرنا إليه والله أعلم بالصواب.
في توجيه كلامه في الإشارات
وأمّا توجيه كلامه في الإشارات ، فلأنّه ذكر أوّلا في بيان الدليل على أن الأنفس الإنسانيّة لا تفسد بفساد البدن ، قوله : «ولمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقليّة ، غير منطبعة في الجسم ، بل إنّما هي ذات آلة بالجسم ـ إلى آخره ـ». (١) وأشار بلفظة «لمّا» إلى ما أثبته في النمط الثالث وغيره ، فأشار بقوله : «هي موضوع ما للصور العقليّة» إلى أنّها مجرّدة في ذاتها وكمالاتها الذاتيّة عن المادّة ، لأنّ موضوع الصور العقليّة التي هي مجرّدة عن المادّة لا يكون إلا مجرّدا عنها أيضا كما هو المستبين عندهم ، وسيأتى بيانه ، فحيث أشار إلى تجرّدها في ذاتها وكمالاتها الذاتيّة عن المادّة ، أشار إلى أنّها غير مركّبة من المادّة والصورة كالجسم ، وغير قائمة بالمادّة والجسم كالصور والأعراض ، كما أنّه أشار بقوله : «غير منطبعة في الجسم» إلى الأخير ، وأشار أيضا بقوله : «بل إنّما هي ذات آلة بالجسم» إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها وكمالاتها العقليّة الذاتيّة إليه ، بل إنّ احتياجها إليه إنّما هو في أفعالها وإدراكاتها الجزئيّة ، وأمّا في أفعالها وإدراكاتها الكلّية فلا ، بل هي عاقلة بذاتها لمعقولاتها من غير توسّط آلة في ذلك. فأشار بما ذكره إلى بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة وإلى أصالتها المطلقة في الوجود والقيام والتعقّل كما عرفت وجه ذلك.
ثمّ إنّه بعد بيان أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن ، قال : «إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات ، لأنّها تعقل بذاتها كما علمت ، لا بآلتها ، ولو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال إلّا ويعرض للقوّة كلال». (٢) إلى آخر ما ذكره من الأدلّة على ذلك ، فبيّن أنّها تعقل بذاتها من غير آلة.
ثمّ قال : «لو كانت القوى العقليّة منطبعة في جسم من قلب أو دماغ ، لكانت دائمة التعقّل
__________________
(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٦٤.
(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٧٦.