شيئا فبدءوا وخلقوا عن لا شيء ، كذلك هذا التشبيه ، يقتضي أن يكونوا في حال العود أيضا معدومين بالمرّة ، فيعادوا عن لا شيء ، لأنّه لا نصّ في الآية أنّ التشبيه في هذا المعنى ، بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل ، أي كما أنّ البدء قد وقع ، يكون العود واقعا أيضا وإن لم يكونوا في حال العود معدومين بالمرّة ، وأن يكون التشبيه في الآية نظير التشبيه في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ). (١) وسيأتي أنّ إعادة المعدوم بالمرّة بعينه ممتنع.
ثمّ إنّك حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما قدّمناه لك ، يظهر لك تأويل كلام أمير المؤمنين عليهالسلام في نهج البلاغة في خطبة له عليهالسلام في التوحيد وهو قوله عليهالسلام : «وانّه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ، ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلّا الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الامور». (٢) فتدبّر تعرف.
وبالجملة تلك السمعيات المذكورة وغيرها ، لا دلالة قطعيّة فيها على فناء كلّ ما سواه تعالى فناء بالفعل ، ويمكن تخصيص عموماتها بما عدا ما استثني ، كما أنّها لا دلالة قطعيّة فيها على أنّ ما يفنى من جملة الموجودات يفنى بالمرّة وينعدم بالكلّية ، بل يمكن تأويلها بما ذكرنا في ذيل بيان حال كلّ والله تعالى يعلم.
ختام
قد استبان لك ممّا ذكرنا بطوله في هذا الباب ، أنّ العالم بجميع أجزائه وإن كان بالنظر إلى ذاته وإمكانه جائز الفناء والعدم ، إلّا أنّه لا يدلّ دليل عقلي أو سمعي على طريان الفناء بالفعل عليه بجميع أجزائه ، بحيث لا يشذّ عنها فرد ، وإنّما الدليل يدلّ على طروء الفناء بالفعل على بعض أجزائه كما فصّلنا ، وكذا لا دليل على أنّ كلّ ما يفنى بالفعل من جملة أجزائه يفنى بالمرّة وينعدم بالكلّية ، بل الدليل كما عرفت بيانه ، إنّما يدلّ على أنّ بعضا من
__________________
(١) الأنعام : ٩٤.
(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٤٨ ، طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة.