تمهيد في أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة
وحيث عرفت هذه الجملة على الإجمال ، فحريّ بنا أن نبيّن أنّ هذه النفس المستعدّة لقبول المعقولات بالعقل الهيولانيّ وما بعده من المراتب ليست بجسم ولا جسمانيّ ، وبالجملة ليست بذي وضع ، بل أنّها جوهر مجرّد عن المادّة وعن توابعها ، قائم بذاته. ولمّا كان بيان هذا المقصود على الوجه الذي نرومه هنا ، مبنيّا على أنّ النفس الإنسانيّة تدرك المعاني الكلّيّة والمعقولات المجرّدة عن المادّة ، فتكون هي أيضا مجرّدة عنها كمدركاتها المجرّدة ، وكان هذا موقوفا على بيان مقدّمات :
منها أنّها مدركة للمعاني الكلّيّة والمعقولات ، وهذه قد مضى بيانها ، حيث عرفت أنّ أخصّ الخواصّ بالإنسان إدراك المعاني الكلّيّة والمعقولات.
ومنها أنّ تلك المعاني مجرّدة عن المادّة.
ومنها أنّ إدراك النفس لها على أيّ وجه وما معناه؟
ومنها أنّه بأيّ سبب وجهة يكون إدراك المجرّدات مستلزما لتجرّد ما يدركها؟
وهذه المقدّمات لم تتبيّن بعد ، فلنبيّنها حتّى يتّضح المقصود. فلنتكلّم أولا في بيان أصناف الإدراكات التي للإنسان ، وفي إدراك المعاني الكلّيّة ، وفي تجرّد تلك المعاني والمعقولات عن المادّة.
نقل كلام وتنقيح مرام
فنقول : قال الشيخ فى طبيعيات الشفاء هكذا (١) : «فصل في تحقيق أصناف الإدراكات التي لنا ، فلنتكلّم الآن في القوى الحاسّة والمدركة (٢) ، ولنتكلّم فيها كلاما كلّيّا فنقول : يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، فإن كان الإدراك إدراكا لشيء مادّيّ ، فهو أخذ صورته مجرّدة عن المادّة تجريدا ما ، إلّا أنّ أصناف التجريد
__________________
(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٥٠ ، الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفنّ السادس.
(٢) في المصدر : الدرّاكة.