الماهيّة تارة جزئيّة ، إن كان إدراك النّفس لها بتوسّط الحواسّ ؛ وتارة كلّية ، إن كان إدراكها لها بذاتها ؛ ويكون المدرك بالعرض ـ أي الأمر الخارجيّ ـ جزئيّا البتّة.
وأمّا في الإدراك الحضوريّ ، فليس الحال كذلك ؛ إذ ليست هناك ماهيّة مجرّدة ، بل المدرك بالإدراك الحضوريّ هو ذات ذلك الحاضر بوجوده العينيّ ، وهو لا يكون إلّا جزئيّا ؛ كما في علم النّفس بذاتها وبالصورة العلميّة الحاصلة فيها ؛ فإنّ لتلك الصورة أيضا في العقل نحوا من الوجود العينيّ وهي جزئيّة ، وسيأتي زيادة توضيح لذلك. فانتظر.
وإذا عرفت شرح قوله في «الشفاء» ، فاعلم أنّ ما ذكره في «الإشارات» من «أنّ إدراك الشيء هو أن يكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك» ، كأنّه أراد بالحقيقة المتمثّلة تلك الماهيّة المجرّدة التي ذكرنا سابقا حالها.
وقوله : متمثّلة عند المدرك ، بإيراد كلمة «عند» دون كلمة «في» ، كأنّ فيه إشارة إلى أنّ المدرك بالحقيقة في كلّ إدراك هو النّفس ، والحقيقة المتمثّلة في الإدراك الحصوليّ ينبغي أن تكون متمثّلة عندها ، سواء كانت متمثّلة فيها نفسها ، كما في إدراك الكلّيّات والجزئيّات المفارقة ، أو في آلاتها وحواسّها ، كما في إدراك الجزئيّات المادّيّة ، فإنّه على التقديرين يكون ذلك التمثّل عندها ، أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، لأنّه إذا كان فيها يكون عندها أيضا ، وأمّا على التقدير الثاني فإنّ ذلك التمثّل ، وإن لم يكن في النّفس نفسها بل في آلتها ، إلّا أنّ التمثّل في الآلة تمثّل عند ذي الآلة أيضا ، لكون الآلة وما يتمثّل فيها حاضرة عنده غير غائبة عنه.
وقوله : «يشاهدها ما به يدرك» أي يشاهد تلك الحقيقة المتمثّلة ما به يدرك المدرك إيّاها ، إن قرأ «يدرك» بصيغة المضارع الغائب المذكّر المعلوم ، وما به تدرك تلك الحقيقة ، إن قرأ بصيغة المضارع الغائب المؤنّث المجهول. وعلى التقديرين فيكون «ما به يدرك» عبارة عمّا به يقع إدراك النّفس لتلك الحقيقة ، وهو ذات النّفس نفسها في إدراكها للكلّيّات ، وحواسّها وآلاتها في إدراكها للجزئيّات. فيكون إشارة إلى أنّ الإدراك ينقسم إلى إدراك بآلة ، وإلى ادراك بغير آلة بل بذات المدرك. وحينئذ ، ففيه مع ملاحظة قوله :