من حيث وجودها العقليّ مجرّدة عن المادّة وعلائقها ، تبيّنت أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة التي هي مدركة بذاتها للصّور العقليّة المجرّدة ، وهي حاصلة فيها بذاتها ، يجب أن تكون هي أيضا مجرّدة عنها مثلها. إذ لو لم تكن هي مجرّدة مثلها ، بل كانت مادّيّة محفوفة بعوارض مادّيّة ، ولا أقلّ بوضع معيّن ، للزم أن تكون الصّورة العقليّة الحالّة فيها بذاتها العارضة لها غير مجرّدة أيضا ، لأنّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين المعيّن والكمّ المعيّن والكيف المعيّن والوضع المعيّن يوجب اختصاص الحالّ فيه بذلك ، ولا أقلّ باختصاصه بالوضع المعيّن. هذا خلف
وبعبارة أخرى : الصّورة العقليّة ليست بذات وضع ، وكلّ حالّ في مادّيّ ، جسم أو جسمانيّ ، فهو ذو وضع ، فليس محلّها ـ أي النّفس ـ مادّية ، بل مجرّدة عنها مثلها.
وبما ذكرنا تمّ بيان أنّ النّفس الإنسانيّة الناطقة ـ من حيث هي ـ مدركة للمعاني العقليّة ، مجرّدة عن المادّة وعن توابعها ، مثل تلك الصّورة العقليّة ، إلّا أنّ تلك الصّور مجرّدة قائمة بغيرها هو النّفس ، والنّفس مجرّدة قائمة بذاتها. واتّضح البرهان على ذلك ، وهو أيضا من مقاصد الباب ، بل ما ينتهي إليه المقاصد الأخر.
ولا يخفى عليك أنّ هذا البرهان ـ على التّقرير الذي قرّرناه ـ برهان واضح تامّ لا يرد عليه شيء من الاعتراضات التى أوردوها عليه أو يمكن أن تورد.
في الاشارة إلى دفع شكوك وأوهام ربّما يمكن أن
تورد على دليل تجرّد النّفس الإنسانيّة الناطقة
مثل ما قيل : إنّ هذا البرهان مبنيّ على أنّ العلم والإدراك إنّما هو بار تسام صورة المعلوم والمدرك في ذات العالم والمدرك ، وهذا غير مسلّم ، لجواز أن يكون بانكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورة فيها ، بل في مجرّد آخر ، فيلاحظها النّفس من هناك ، كما تدرك ما انتقش من الجزئيّات في آلاتها. بل يجوز أن يكون العلم مجرّد انكشاف ، من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا.