وحيث عرفت ما ذكرنا ، وعرفت بطلان جميع تلك الاحتمالات فيما إذا كان محلّ الصّورة العقليّة جسما أو جسمانيّا ، عرفت أنّه يجب أن يكون محلّها جوهرا غير جسم ولا جسمانيّ ، بل مجرّدا عن المادّة وعلائقها مطلقا وهو المطلوب.
وعرفت أيضا أنّ الصّورة العقليّة ممّا لا يمكن أن ينقسم إلى أقسام عينيّة مطلقا ، ولا إلى أقسام عقليّة متشابهة مطلقا ، ولا إلى أقسام عقليّة غير متشابهة بحسب انقسام محلّها ؛ بل إنّ انقسامها إلى الأقسام العقليّة غير المتشابهة ، أي إلى الجنس والفصل ، إنّما هو فيما إذا كانت منتزعة من مركّب خارجيّ من مادّة وصورة بحسب انقسام ذلك المنتزع منه إلى المادّة والصّورة ، وفيما إذا كانت منتزعة من غير مركّب ، بل من أمر بسيط بحسب تعمّل العقل ، لو قلنا بكون الجنس والفصل له ، كما مرّت الإشارة فيما سبق إلى ذلك.
وعرفت أيضا أنّ كلّ معقول من حيث هو معقول ، يجب أن يكون مجرّدا عن المادّة وعلائقها ، وكذا كلّ عاقل من حيث هو عاقل يجب أن يكون مجرّدا عنها ، إلّا أنّ المعقول بالتعقّل الحصوليّ قائم بالغير ، والعاقل قائم بالذّات ، وإن لم يثبت بذلك أنّ كلّ مجرّد يجب أن يكون عاقلا أو معقولا ، لكنّه أيضا ممّا برهن عليه في موضعه.
ثمّ إنّك حيث عرفت أنّ هذه البراهين التي ذكرناها على تجرّد النّفس النّاطقة الإنسانيّة ـ كما قرّرناها ـ مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات المجرّدة ، وعلى تجرّد تلك المعقولات ، وبيّنّا فيما سبق أنّ ذلك الإدراك مخصوص بالنّفس النّاطقة الإنسانيّة دون نفوس سائر الحيوانات ، عرفت أنّ هذه البراهين مع دلالتها على تجرّد النفس الإنسانيّة تدلّ على عدم مشاركة نفوس الحيوانات معها في ذلك.
إلّا أنّه بقي هنا سؤال ينبغي التعرّض للجواب عنه حتّى يتمّ المطلوب.
سؤال وجواب
بيان السؤال : أنّه لقائل أن يقول : إنّ ما ذكرت من الدلائل على تجرّد النّفس التي تبتني على ادراك المعقولات ، إنّما تنهض فيما إذا كان هناك إدراك بالفعل للمعقولات لا