مطلقا ، وحينئذ فتدلّ الدّلائل المذكورة على تجرّد النّفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل أو المستفاد ، لا فيها في المرتبتين الأخيرتين المتقدّمتين. ولو سلّم أنّ النّفس في مرتبة العقل بالملكة أيضا لا تخلو عن إدراك بالفعل للمعقولات ، وإن كانت من البديهيّات الأوّليّات كقولنا : الكلّ أعظم من الجزء ، والواحد نصف الاثنين مثلا ، فلا سترة في أنّها في مرتبة العقل الهيولانيّ تخلو عن ذلك أيضا ، فالدّلائل المذكورة لا تدلّ على تجرّدها إذا كانت في مرتبة العقل الهيولانيّ ، والحال أنّ المقصود تجرّد النّفس الإنسانيّة مطلقا سواء كانت في المرتبة الهيولانيّة أو فيما بعدها من المراتب ، كما عقدتم عنوان الباب به. وهذا لا يتمّ بهذه الدلائل. ولذلك كان الحكماء القائلون بتجرّد النّفس الإنسانيّة الذين بنوا على تجرّدها بقاءها بعد خراب البدن ، متّفقين على بقاء النّفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل بعد خراب البدن ، ومختلفين في بقاء النّفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل.
فذهب بعضهم كالإسكندر الافريدوسي (١) إلى أنّها تهلك بهلاك البدن ، لأنّ دلائل تجرّد النّفس وخصوصا التي تبتني على تصوّر المعقولات ، إنّما تنهض في المعقولات بالفعل والمجرّدات بالفعل ، لا التي من شأنها التّجريد ، وليس لكلّ أحد أن يدرك معقولا من جهة عقليّة من غير أن يشوب بالحسّ أو الخيال.
وقد نقل صدر الأفاضل عن الشيخ أنّه خالف رأي الإسكندر في أكثر تصانيفه ، محتجّا بأنّ الإنسان لا يخلو عن إدراك بعض الأوّليّات ، كالواحد نصف الاثنين ، والكلّ أعظم من الجزء ، ووافق رأيه في بعض تصانيفه.
وهذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان السؤال.
وأمّا بيان الجواب عنه ، فهو أنّ مبنى تماميّة الدّليل على تجرّد النّفوس الإنسانيّة ، حتّى النّفوس التي في مرتبة العقل الهيولانيّ ، على أنّ النّفس الإنسانيّة التي لكلّ إنسان
__________________
(١) الملل والنحل ٢ / ٤٣٣ ، طبع القاهرة ، ١٣٦٧ ه. قال : وأومأ (أي الاسكندر الافريدوسي) إلى أنّه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها (للبدن) قوّة أصلا ، حتّى القوّة العقليّة.