وجدنا لها فعلا خاصّا صادرا عنها بذاتها دليلا على تجرّدها ، لربما حكمنا بتجرّدها أيضا في ذاتها ، وأنّ أفعالها الجزئيّة المادّية إنّما هو بتوسّط الآلة كما في النّفس الإنسانيّة ، وإذ ليس فليس ، فاحفظ هذا التحقيق فإنّه به حقيق. والله تعالى أعلم بالصّواب ، وإليه المرجع والمآب.
في الإشارة إلى براهين اخر على هذا المطلوب قد ذكرها القوم
ثمّ إنّك إذا تبيّنت ما بيّنّاه ، فاعلم أنّ للقوم على هذا المطلب ، أي تجرّد النّفس الإنسانيّة ، براهين وحججا كثيرة ، غير ما ذكرناها ونقلناها أيضا.
فمنها ما هو مبنيّ أيضا على إدراك النّفس للمعقولات ، إلّا أنّا تركنا نقله مخافة للإطناب ، ولأنّ فيما نقلناه غنية لاولي الألباب ، وكفاية للمسترشدين الطّالبين للصّواب.
ومنها ما هو مبنيّ في الظّاهر على أمور أخر غير ما ذكر ، إلّا أنّ مبنى بعضها عند التّحقيق يرجع إلى ما ذكرنا أيضا. وهذا مثل ما قالوه من أنّ النّفس تقوى على إدراك أمور غير متناهيّة ، وأنّ الجسم أو الجسمانيّ ليس يقوى على ذلك. فإنّ هذا البرهان ينبغي أن يؤول بما يستفاد من كلام الحكيم ابن رشد المغربي في جامع الفلسفة من أنّ النّفس تقوى على إدراك الكلّيّ وإدراك أفراده الغير المتناهية والحكم عليها ، وإن كان الحكم عليها على سبيل الكلّيّة والإجمال دون التفصيل : بخلاف الجسم أو الجسمانيّ ، فإنّه لا يقدر على ذلك ، فإنّه لو لم ينزّل هذا البرهان على ما ذكر ، بل حمل على ظاهره ، لكان توجيهه مشكلا كما لا يخفى على المتأمّل.
وإلّا أنّ بعضا من تلك البراهين والحجج ، بل كثير منها إقناعيّات تفيد الطمأنينة بأنّ النّفس الإنسانيّة من عالم آخر غير ما شاهدناه وعلمنا حاله من عالم الأجسام والجسمانيّات ، وإن كان نبذ منها ـ مع ذلك الإقناع ـ يفيد القطع بالمطلب أيضا لدى التأمّل الصادق ، ولا بأس بنقل جملة منها عسى أن يكون موجبا لزيادة الاطمئنان.