يكون (١) هناك النّفس النطقيّة أصلا ، فتكون هذه الأنفس البهيميّة نفسا على حدة.
وإذا اجتمعت هذه الأمور في الإنسان ، علمنا أنّه قد اجتمع فيه أنفس متباينة (٢) الذوات ، قد يفارق بعضها بعضا ، فلذلك يختصّ (٣) كلّ واحدة منها بموضع ، فيكون للمميّزة الدّماغ ، ويكون للغضبيّة الحيوانيّة القلب ، ويكون للشهوانيّة الكبد.
فهذه هي المذاهب المشهورة في أمر النّفس ، وليس بصحيح (٤) منها إلّا المذهب الأخير ممّا عدّ أوّلا ، فلنبيّن صحّته ، ثمّ نقبل على حلّ الشبهة التي أوردوها».
ثمّ إنّه ساق الكلام في تصحيح ما رام تصحيحه ، وفي إبطال المذاهب الأخر ونقض احتجاجاتهم عليها بوجوه كثيرة ، سنذكر نحن فيما سيأتي حاصلها وبيانها مع زوائد وفوائد استفدناها من كلمات الحكماء وسنحت بالبال جملة منها ، فنقول :
إنّ القول بوحدة النّفس ، أي القول بكون المدبّر في البدن المتصرّف فيه وفي أجزائه ـ كما هو معنى النّفس عندهم ـ واحدا وحدة بالذات ، كأنّه بديهيّ لا يحتاج إلى دليل وبرهان ، فإنّ كلّ أحد إذا كان سليم الفطرة وراجع إلى وجدانه ، يجد من نفسه أنّ المدبّر في بدنه المتصرّف فيه ليس متكثّرا متعدّدا بالذات ، بل واحد بالعدد بالذّات ، وهو الذي يعبّر عنه بقولنا : أنا أو أنت. ولو جاز التشكّك في هذا لجاز التشكّك في أنّ الإنسان الواحد إنسان متعدّد. فعلى هذا ، فالذين تشكّكوا فيه وقالوا بتكثير النّفوس في الإنسان الواحد ، فتشكّكهم فيه كأنّه تشكّك في أمر بديهيّ ، وهو لا ينبغي أن يلتفت إليه. نعم ، لو أرادوا بذلك التكثّر تكثّر قوى نفس واحدة ، لكان لذلك وجه ، على ما سيأتي تحقيقه. ثمّ إنّه حيث كان هذا الحكم بديهيّا أو في حكمه ، فما ذكره القوم دليلا عليه كأنّه تنبيه عليه ، ونحن نذكر من ذلك وجهين يفيدان الاطمئنان ، وقد سبقت في الأبواب السابقة إشارة ما إليهما.
الوجه الأوّل
إنّه لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول : أنا قعدت وأنا قمت وأنا جئت وأنا ذهبت وأنا
__________________
(١) في المصدر : ولا تكون ...
(٢) متباينة مختلفة الذوات ...
(٣) تختصّ ...
(٤) يصحّ.