وكما نجد من أنّ إدامة استعمال الحواسّ في المحسوسات بحيث لا يكون هناك تعطّل للحواسّ أصلا ، وكذا إدامة النّظر في المعقولات قد تشغل النّفس النباتيّة عن فعلها ، بل قد تكلّ وتضعف جدّا ، وكذلك إدامة استعمال الحواسّ قد تشغل القوّة العاقلة عن فعلها ، بل قد تمنعها عنه ، وكذا بالعكس ، وكل ذلك ظاهر على من راجع إلى وجدانه.
وكما نجد من أنّ حكم الحسّ إذا غلط فيه يردّ إلى حكم العقل ، وذلك مثل أنّ الحسّ الدائم الغلط في محسوسه ـ كالعين ـ إذا نظرت من بعيد إلى الشيء الكبير فتراه صغيرا ، حتّى ترى الشّمس مثلا وهي أضعاف مقدار الأرض ، مثل المرآة التي قطرها شبر ، ونظرت إلى الشيء في الماء فتراه كبيرا وهو صغير ، ومعوجّا وهو مستقيم ؛ وكالذّوق الصّفراويّ إذا أحسّ بالحلو مرّا ، تردّ هذه الأغلاط إلى النّفس وإلى القوّة العاقلة ، فتحكم بأنّ الحسّ قد غلط ، وأنّ الحقّ غير ما أحسّ ، فتردّ الجميع إلى حقائقها.
وحيث عرفت ذلك ، أي ارتباط هذه الأفعال المتخالفة بعضها ببعض كما بيّنّا ، اتّضح لك أنّ المدبّر للبدن والمتصرّف فيه ـ وهو المسمّى بالنّفس ـ شيء واحد.
إذ لو كان متعدّدا ، أي نفوسا ثلاثة لا ارتباط بينها من حيث الذّات ، لكونها متباينة الذوات كما هو رأي الخصم ، ولا بين أفعالها ، حيث إنّه من المقرّر عندهم أنّ كلّ نفس من حيث هي فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الخاصّ بها ، أي الفعل الأوّل الذي لها ، فلا النّفس الغضبيّة من حيث هي غضبيّة تنفعل من اللذّات ، ولا الشهوانيّة من حيث هي شهوانيّة تنفعل من المؤذيات ، ولا المدركة من حيث هي مدركة تتأثّر ممّا تتأثّر هاتان عنه ، كما أنّه لا شيء من هاتين قابلا للصّور المدركة التي تتأثّر عنها النّفس المدركة ، والقوّة المدركة ، لم يكن هذا الارتباط.
وحيث كان ذلك الارتباط الذي عرفته ، فهو إمّا مبنيّ على اشتراك تلك النّفوس المتعدّدة في الآلة أو في المحلّ ، وهذا منتف ، لأنّ المفروض أنّ بعض تلك النّفوس ـ وهي الإنسانيّة ـ ليست في محلّ ، ولا لها آلة في أفعالها الذّاتيّة ، لكون المفروض تجرّدها ، والنفسان الأخريان ، أي النباتيّة والحيوانيّة وإن كان لهما محلّ وآلة ، فليس ذلك مشتركا