في كيفيّة صدور الأفعال المختلفة عن الإنسان
ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما ذكر ، وعرفت أنّ المدبّر الأصل في البدن الإنسانيّ ذات واحدة هي النّفس الناطقة الإنسانيّة ، وأنّ تلك القوى والنّفوس قوى لها وفروع لها ، فنعود من رأس ونقول :
لا يخفى أنّ هاهنا أفعالا مختلفة نشاهد صدورها عن الإنسان ، حيث إنّ ما ينسب إلى كلّ نفس من تلك النّفوس من الأفعال مخالف لما ينسب إلى الأخرى من الأفعال ، ومع هذا فما ينسب إلى كلّ نفس بانفرادها هو أيضا أفعال مختلفة متخالفة.
فإمّا أن يقال بكون تلك الأفاعيل المختلفة مستندة إلى فواعل مختلفة ، بأن يكون كلّ فعل من تلك الأفعال مستندا إلى فاعل واحد منفرد ، ويكون مجموع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة مستندة إلى مجموع فواعل متعدّدة متكثّرة بعدد تلك الأفاعيل الجزئيّة أو كلّيّاتها ، فهذا باطل ، لأنّه بعينه هو القول بتكثّر النّفوس ، وقد عرفت بطلانه. مع أنّه يلزم أن يكون عدد تلك النّفوس التي هي فواعل ومدبّرات أزيد من ثلاثة بكثير ، حيث إنّ عدد تلك الأفاعيل جزئيّاتها بل كلّيّاتها أيضا أزيد من ثلاثة بكثير ، وهذا ممّا لم يقل به أحد من ذوي العقول السّليمة.
وإمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة إلى ذات المدبّر الواحد بذاته ـ أعني النّفس الناطقة ـ من غير أن يكون ذلك بتوسّط آلة أو توسّط قوّة أو نحو ذلك ، فهذا أيضا باطل ، لأنّه بناء على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلّا أمر واحد ، لا يصحّ هذا الفرض. إلّا أن يكون تكثّر وتجزّي في ذات ذلك الواحد ، بحيث يكون له أجزاء كثيرة يفعل كلّ فعل من تلك الأفعال باعتبار جزء منه مناسب لذلك الفعل ، وقد عرفت أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة في ذاتها ، بسيطة لا تركيب فيها من الأجزاء لا بالفعل ولا بالقوّة. نعم لو كانت هي جسما ، لأمكن فرض ذلك فيها ، وإذ ليس فليس. وأيضا على هذا يلزم أن لا يكون للقوى والحواسّ حظّ في تلك الأفاعيل أصلا ، وهو خلاف ما نجده من أنفسنا ، كما سنبيّنه. وأيضا يلزم أن يكون