عمّا ذكرناه من الإشكال الثاني ، وكأنّ وجه التفصّي أنّ الأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة ، وإن لم يكن لها فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصل تلك الأفعال حتّى يلزم خلاف ما هو المقرّر عند الحكماء ، إلّا أنّ لها فيها احتياجا إلى الآلة واستعانة بها بنحو آخر ، وهو حصول التنبّه أو حصول التذكّر.
والحاصل أنّ العلوم والإدراكات الكلّيّة التي هي أفعال النّفس النّاطقة الإنسانيّة ليس فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصلها ، كما في الأفعال المنسوبة إلى النّفسين الأخريين ، بل إنّ تلك العلوم والإدراكات مطلقا حاصلة للنّفس الإنسانيّة بذاتها ، وهي أفعال لها بنفسها ، وأمّا استعمال الحواسّ والآلات ، فهو لأجل أن تكون مقرّبة لها عندها على سبيل التنبّه كما هو رأي فرقة ، أو على سبيل التذكّر كما هو رأي فرقة أخرى. ولا يخفى عليك أنّ هذين القولين أيضا باطلان.
أمّا أوّلا ، فلأنّ الإشكال الأوّل الذي أوردناه وارد عليهما أيضا ، ولا يمكن التفصّي عنه بهما.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ معنى التنبّه الذي قالت به الفرقة الأولى كأنّ مبناه على أنّ تلك العلوم والإدراكات حاصلة للنّفس أوّلا على سبيل حصول البديهيّات لها وعلمها بها ، أي علمها بها علما إجماليّا ، وأنّها إذا استعملت الحواسّ والآلات كان ذلك مقرّبا لها هنا ، فتتنبّه لها ويكون بذلك علمها الإجماليّ علما تفصيليّا ، ويكون ذلك منبّها لها كما في العلم بالبديهيّات بعد حصول المنبّه لها ، وهذا باطل ، لأنّه على هذا يلزم أن يكون معلومات النّفس الإنسانيّة ومدركاتها كلّها بديهيّة ، وأن لا يكون شيء منها نظريّا ، حيث إنّ المنبّه إنّما يكون في البديهيّات دون النظريّات ، وذلك خلاف الواقع وخلاف ما نجده بالوجدان.
وكذلك معنى التذكّر الذي قالت به الفرقة الثانية ، كأنّ مبناه على أن علوم النّفس وإدراكاتها نظريّاتها وبديهيّاتها ، حاصلة لها علوما تفصيليّا ، إلّا أنّها عرض لها أن نسيتها. ثمّ إنّها إذا استعملت القوى والحواسّ ، زال عنها النسيان وتذكّرت لها كما هي عليه قبل النسيان. وهذا أيضا باطل من وجهين :