في الإشارة إلى المناسبة بين النّفس والبدن
واحتياج أحدهما إلى الآخر والارتباط بينهما
وأقول : وأنت بعد تدبّرك فيما نقلنا عنه من هذا الكلام ، وتذكّرك لما أسلفنا لك في الأبواب السّالفة ، يظهر لك أنّه كما أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد ، ولها قوى مختلفة مرتبطة بعضها ببعض ، وهي منبع تلك القوى وما به الارتباط بينها ؛ وأنّ قواها يرؤس بعضها بعضا ، ويخدم بعضها بعضا ، والرّئيس للكلّ واحد بالعدد ، كذلك العضو الرّئيس من آلاتها ـ أي القلب ـ عضو واحد بالعدد ، وهو بما فيه من الرّوح أوّل ما يتعلّق به النّفس ، وهو أيضا منبع الآلات ، وهي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا تامّا كما ذكر. فيكون المناسبة بين النّفس والبدن بهذا الاعتبار تامّة.
وكذلك يظهر لك أنّه كما أنّ البدن محتاج إلى النّفس لأجل حفظ تركيبه ومزاجه وبقائهما ، كذلك النّفس محتاجة إلى البدن ، لأجل أفعالها الآليّة ، وكذا للاستعانة في أفعالها الذّاتيّة.
وكأنّه لأجل ذلك اشتبه الأمر على بعض الأقدمين من الحكماء ، فظنّ أنّ النّفس لا فعل لها بدون مشاركة البدن أصلا حتّى الأفعال الذّاتية لها كالتّعقّل وإدراك الأمور الكلّيّة على ما نقله صاحب «الملل والنحل» عن الاسكندر الأفريدوسي تلميذ أرسطو (١) ، وإن كان رأيه هذا مخالفا لرأي أستاده ، ولرأي الجمهور من الحكماء.
وبذلك يظهر أنّ بين النّفس والبدن احتياجا شديدا لا غنى لأحدهما من الآخر بوجه ، وبه يظهر أيضا أنّ بينهما ارتباطا تامّا ، وكفاك شاهدا على هذا تأثّر كلّ منهما عن الآخر ، وتأثير كلّ واحد منهما في الآخر. ليس إذا أحسست بشيء من أعضائك شيئا أو تخيّلت أو اشتهيت أو غضبت ، تأثّرت نفسك منها ، وحصل فيها هيئة وكيفيّة من الكيفيّات النفسانيّة تسمّى حالا ما دامت سريعة الزّوال؟ فإذا تكرّرت وأذعنت النّفس لها ، فصارت كلّ مرّة أسهل تأثّرا حتّى تتمكّن تلك الكيفيّة منها وتصير بطيئة الزّوال ، فصارت
__________________
(١) الملل والنحل ٢ / ٤٤٣ ، طبع القاهرة ، ١٣٦٧ ه.